ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة

لماذا الأدب المقارن والآداب المقارنة؟ “لأنه لا اختيار لنا، نحن مقارنون بالقوة، والأدب ليس كافيا لوحده؛ بل نحتاج نصوصا أخرى لفهم معنى وخصوصيات ما نقرأ”.

.

والسؤال الحقيقي ليس هو “لم الأدب المقارن؟” بل “كيف من الممكن ألا نمارس الأدب المقارن، أي ألا نكون مقارنين بالأساس، بل علينا ذلك؟”.

جاء هذا في محاضرة ألقاها ويليام ماركس، أستاذ الأدب المقارن بالكوليج دو فرانس، نظمتها أكاديمية المملكة المغربية، أمس الأربعاء، في إطار برنامج كرسي الآداب المقارنة بالأكاديمية، المنطلق حديثا.

وقال ماركس: “النصوص تسافر، وتخلق سوء فهم، فكيف لا نمارس الأدب المقارن؟”، واستحضر روايات متعددة لحكاية واحدة؛ رسام صيني أو ياباني، جاءه الإمبراطور ليرسم له سلطعونا، أعطاه الموافقة، عاده فلم يجد الرسم جاهزا، طلب الرسام شهورا وفي روايات سنوات، وذات يوم رجع الإمبراطور، وقال الرسام أنا جاهز ورسم السلطعون في الحين.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} وتابع الأستاذ متنقلا بين رواية بول فاليري للرسام والسلطعون، ثم روايات للرسام الصيني والديك، والرسم الذي يحتاج خمس سنوات ثم خمسا أخر مع الخدم في قصر خاص، لرسم السلطعون الأكثر مثالية في التاريخ في الساعة الأخيرة.

وفي بحثه عن مصدر هذه القصة، وهو يحرر استشهاد فاليري بها، وجد نفسه أمام استشهاد بها للشاعر بول جيرالدي، المنسي اليوم، حيث حكى هذه القصة سنة 1925؛ قائلا إنه قد حكاها له رسام، على أساس أنها “معنى كل عمله”؛ إمبراطور صيني، يأتي رساما ليرسم له سلطعونا، يزوره لا يجده جاهزا بعد، ثم بعد ثلاث سنوات، رسمه أمامه دفقة واحدة، بعد أن استكمل استعداده.

وذكر أستاذ الأدب المقارن أنه “لم يجد المرجع المكتوب الغربي لهذه القصة بعد، ولا يعرف الأصل الأوروبي الذي تستلهم منه؛ فهذه الحكايات الصينية بفرنسا كثير منها غير صحيحة.

كما لم يجد الأصل الأوسط الذي نقلها”؛ لكنه وجد النص الأصلي الصيني.

وأحال الباحث على أكبر كتب تشان زو (سان زو)، في فقرته التاسعة عشرة، حيث توجد حكاية “لا علاقة لها بالرسم أو السلطعونات”، بل بـ”إعداد ديكة المناقرة”؛ لكن “هناك نفس السيرورة الزمنية (…) نفس المقاربة للوقت المتطلب للمهارة للوصول إلى الإتقان”.

ثم استرسل مؤولا: “في نهاية القرن التاسع عشر، قد يكون قد نقل هاو للثقافة الشرقية هذه القصة، مستبدلا بسلطعون ورسام، قصة مربي ديكة المناقرة، التي هي تقليد شعبي في الصين وبلدان أخرى”، ورصد ما في هذا من “اختفاء للشعوب المهمشة واستبدالها بالرسام المكرس، واختفاء البعد الطاوي (الروحي)، واختفاء دلالة القصة، بترجمة لسياق غربي يقدس الفن ككائن أعلى؛ بل العكس ففي القصة الأصلية (من العبر) أن تكون داخل الطبيعة، لا في صورة الرسم، والقوة لا تجدها في نفسك، بل في العلاقة بالطبيعة”، بينما استحضرت عند فاليري بمعنى “الإتقان المطلق المحتفى به، الذي يتضمن الهيمنة على الطبيعة”، وهو أمر بعيد عن “التخلي” الطاوي.

بالتالي؛ “مرور النص إلى الغرب، يقول لنا شيئا عن نفسنا.

هو درس في القراءة؛ صعوبة قراءة النصوص البعيدة، وسوء الفهم، وتمكننا من فهم عوالمنا القريبة.

فالآخرية والعجائبية، حقيقية في ديك المناقرة، لكنها تثير سوء الفهم، فهي عجائبية بعيدة جدا، فكانت الحاجة إلى غرائبية عادية أكثر: السلطعون والرسام”.

ويرى المحاضر أن “الغرائبية هي الصيغة المقبولة للآخرية”، ومع استحضار إدوارد سعيد و”استشراقه”، تساءل ماركس عن “إمكان العودة إلى الغرائبية الأولى” غرائبية ما قبل الاستشراق، مع ترجيحه صعوبة الأمر.

ودافع أستاذ الأدب المقارن عن أن المقارن “يبحث عن اللامعروف بعيدا، ويتكون لإيجاده، فهي قدرة داخلية يجب تغذيتها لاستقبال اللامعروف؛ أي أن تتغير نفسك لتستقبل الآخرية، وأن تعد نفسك لتجد الاختلاف، الذي قد يكون غير ظاهر”.

ومع استحضاره إشكالية علمية العلوم الإنسانية، قال: “مع انعدام إمكانية التجريب في العلوم الإنسانية؛ مثل إعادة كتابة “البحث عن الزمن المفقود” في المغرب أو الصين أو كولومبيا لمعرفة بروست آخرا”، وتبقى المقارنة سبيل تنويع التجارب، والعينات، والمقارنات، والسياقات؛ مع العلم أن تخصصي “الآداب” و”الآداب المقارنة”، ولو اهتم هذا الأخير بالاختلافات، “طموحان لا يفترقان”.

واستمر الأكاديمي في مرافعته المدافعة عن المقارنة الأدبية والثقافية: “لا تفكير دون مقارنة (…) ومتخصص الآداب المقارنة هو جذري المقارنة، الباحث عن كل ما يستدعي الاهتمام والفضول، وطارح الأسئلة التي لم يتعلم طرحها”.

ومع استحضاره لحظتين سابقتين أوروبيتين في “تقليد المقارنة الأدبية” هما “اكتشاف آخرية الأمم الأخرى”، و”الدفاع عن أدب عالمي”، يرى “خطرا” في اللحظة الحالية “آخرية القريب”، التي تنذر بمجتمع طائفي، يتعزز فيه سوء الفهم؛ فـ”ولو أننا نتشارك نفس الإنترنت والشبكة إلا أن هذه الأدوات تشجع انغلاق الفرد؛ فيتحرك الكل ولا شيء يفهم، وتنتصر أنا القارئ على التبادل والآخرية”.

ومن بين ما انتقدته محاضرة ماركس “خطر الانتظارات الإيديولوجية من كتاب الماضي”، أو القراءات التي تختصر كتابا في بعد واحد “معاد للنساء مثلا، أو المثليين”، ونادت بـ”قراءة كريمة، مبدعة، لا قراءات سلبية ممأسسة”، علما أنه من الضروري قراءة كُتّاب الماضي “لأنهم يقولون لنا من أين أتينا، حتى لا نكرر أخطاءه”.

وعودة إلى المقارنة، فقد شبهها المحاضرة بـ”الأداة” و”الدواء”؛ لـ”الدخول في الفهم؛ من أين أتينا؟ وإلى أين يمكننا الذهاب؟ أن نرى أنفسنا عبر الآخرين”.

ثم أردف قائلا: “الأدب المقارن طريقة حتى لا نرضى بـ(استكمال قراءة) النصوص أمامنا، فلا نص أو ثقافة يفهمان وحدهما؛ بل يفهمان عبر ثقافات ونصوص نعرفها أو لا نعرفها (…) ونحتاج تنمية قلق عدم معرفة كل شيء، عدم قراءة كل شيء؛ أننا لا نعرف كل ما تحمله لنا الكتب، هذا التواضع بأننا لسنا في مستوى النصوص التي نقرؤها”، ثم أجمل بقول: “هذه طريقة تنمية الآداب المقارنة”.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 1 أسابيع | 3 قراءة)
.