ملامح من مسارات الراحل محمد إبراهيم بوعلو.. أكاديمي بارع وأديب ماتع

قد لا يلتفت الكثير من المتابعين والنقاد، ناهيك عن الجمهور الواسع، إلى بعض الأسماء في الساحة الفكرية والثقافية العربية أو القُطرية إلا بعد سماع نبأ رحيلها عن هذا العالم.

والأستاذ محمد إبراهيم بوعلو نموذج لهذا الصنف من المبدعين الذي رحل عن عالمنا قبل أيام.

ليبدأ التنقيب في مسيرته الإبداعية التي لم تكن بسيطة في كل الأحوال.

ولد الراحل بوعلو يوم 28 مارس 1936 بمدينة سلا، من أسرة سلاوية معروفة، أصلها القريب من تلمسان، لكن أصلها الأول من حضرموت شرق اليمن، كان عدد من أفرادها معروفين تاريخيا بتخصصهم في علوم الرياضيات، إضافة لمجموعة من العلماء في مجالات الشريعة واللغة، وانتهاء ببعض الوجوه الوطنية، خاصة في مدينة سلا، يمكن أن نذكر منهم قريبه الموسيقي والفنان عبد الكريم بوعلو، أحد وجوه الحركة الوطنية في مدينة سلا الذي قام بتعريب كتاب الفرنسي أليكسي شوتان “الرحلة الفنية إلى الديار المصرية” الصادر سنة 1932، وحققه الدكتور رشيد العفاقي، ليتم نشره ضمن سلسلة “كتاب الدوحة”.

وصاحب الكتاب Alexis Chottin هو الشخص الذي عينته إدارة الحماية الاستعمارية الفرنسية مفتشا للفنون الجميلة الأهلية، كما أنه شغل منصب مدير المعهد الموسيقي العربي في الرباط، المعروف باسم “دار الطرب”.

وهو كتاب يحكي قصة رحلة الموسيقيين المغاربة للمشاركة في مؤتمر الموسيقى العربية الأول المنعقد في القاهرة شهري مارس/أبريل من سنة 1932.

#div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} مسار أكاديمي ونضالي مزدوج بدأ الأستاذ بوعلو رحلته المهنية محافظا لمكتبة كلية الآداب بالرباط، بتكليف من عميدها حينذاك محمد عزيز الحبابي، بعد أن عاد رفقة محمد عابد الجابري من دمشق مع شهادة السنة التحضيرية فرع الآداب سنة 1959، بهدف تحصيل الإجازة في الفلسفة بالرباط، حيث رافقا كلا من زبيدة بورحيل، والطاهر واعزيز، والكاتب الجزائري عبد المجيد مزيان، الذي كان منسقا لجبهة التحرير الوطني الجزائرية بالمغرب، وشغل مناصب بارزة في الجزائر بعد الاستقلال مثل وزارة الثقافة ورئاسة المجلس الإسلامي الأعلى إلى حين رحيله.

أصبح بوعلو أستاذا في شعبة الفلسفة سنة 1961، وشغل منصب رئيس للشعبة في عقد السبعينات، واستمر في التدريس بها حتى تقاعده سنة 1997.

عرفته لأول مرة حين انتقلت لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط للدراسة طالبا في شعبة الفلسفة مطلع التسعينيات من القرن الماضي.

وقد كان درسه الفلسفي عميقا وممتعا.

ومطبوعا بطابع خاص في طريقة تدريسه، وهي الطريقة التي كانت تجعل الطلبة جميعا مشدودين إلى درسه من البداية حتى النهاية.

ومما أتذكره من طريقته تلك أنه كان قليل الجلوس على كرسيه، بل كان يلقي درسه علينا وهو يتجول بين أرجاء الفصل أو المدرج أحيانا، فكان مشّاء بحق.

وكانت تلك الطريقة بالنسبة لنا نحن الطلاب غريبة في حينها، حتى أنني رجعت لحضور حصة أو حصتين من دروسه بعد تخرجي من الجامعة بسنوات، لأجده على النهج نفسه لم يغيره.

كان الراحل بوعلو إضافة لتدريسه الأكاديمي بالجامعة مناضلا ملتزما في صفوف الحركة الاتحادية، وخاصة لحظة ألَقها في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي إلى حدود رحيل الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، حيث ابتعد عن الحزب في سياق ابتعاد عدد من الوجوه بعد التحولات التي عرفها بعد ذلك.

وإضافة لنضاله النقابي داخل النقابة الوطنية للتعليم العالي، كان الأستاذ بوعلو مثقفا ملتزما ساهم إلى جانب كل من الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو والأستاذ أحمد السطاتي في إصدار مجلة “أقلام” بين سنوات 1964 و1982، قبل منعها مع مجلات ثقافية أخرى في سنوات الرصاص، ويمكن التمييز بين مرحلتين في وجودها؛ إذ كانت الميزة الأساسية التي انفردت بها في مرحلتها الثانية أنها وسَّعت انفتاحها على أقلام مغربية لتضم أسماء لامعة في المشهد الثقافي المغربي، مثل محمد عابد الجابري ومحمد زنيبر، وإدريس السغروشني، ومحمد القبلي، إضافة إلى الطبيب عبد الكريم العمري، وكمال عبد اللطيف، سالم يفوت، محمد وقيدي، محمد برادة، محمد سبيلا، عبد الكبير الخطيبي، عبد القادر الشاوي، محمد السرغيني، الحبيب الفرقاني، عبد الله راجع، حسن المنيعي، أحمد المجاطي، عبد الرزاق الدواي… وقد كتب في المجلة إضافة إلى المثقفين المغاربة السابق ذكرهم، وجوه ثقافية عربية لامعة مثل حسن حنفي، عبد الوهاب البياتي، عبد السلام العجيلي، زكريا تامر، ياسين رفاعية، شوقي بغدادي، أمين نخلة وغادة السمان… مجلة جامعة مانعة فقد تجد في “أقلام” إعلانا لعزم الجزائر وهي الخارجة لتوّها من استعمار فرنسي وحشي لتأسيس فرقة قومية للفنون، أو نعيا للكاتب محمود عباس العقاد، أو إخبارا باشتداد المرض على بدر شاكر السياب، أو إخبارا بعزم كاتب مثل طه حسين أو ميخائيل نعيمة أو عبد العزيز الدوري أو زكي نجيب محمود على إصدار كتب، أو إعلانا عن صدور كتاب الأستاذ الجابري “فكر ابن خلدون.

.

العصبية والدولة”، أو مقالا طريفا للأستاذ طه عبد الرحمان بعنوان “نظراتك أنت” (عدد يناير 1965) يعلق فيه على قول سارتر “الجحيم هو الآخرون” ويتضمن قصيدة عمودية بائية، وهو المعروف بكونه مفكرا وفيلسوفا ولم يعرف عنه كونه شاعرا، أو دراسة نقدية في ديوان “دوائر الأصفار” للشاعر محمد الشعرة بقلم الأستاذ كمال عبد اللطيف، وهو المعروف بكونه أستاذا للفلسفة، وليس ناقدا أدبيا، أو قصيدة للأستاذ عبد اللطيف زروال يتحدث فيها عن الحب والموت مستحضرا صورة الشهيد بعد استشهاده، ولم تمر سنة على نشره هذه القصيدة في مجلة أقلام حتى حكم عليه بالإعدام، ليستشهد تحت التعذيب حوالي سنتين بعد نشر قصيدته وهو لما يتجاوز الثالثة والعشرين من عمره، أو حوار الشاعر أحمد المجاطي مع الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد أثناء زيارة له للمغرب بدعوة من “الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني” و”اتحاد كتاب المغرب” سنة 1973، أو قصيدة “عرس المهدي” التي كتبها أحمد عبد المعطي حجازي عن الشهيد عمر بنجلون، أو أقصوصة بعنوان “الليمون” نشرتها المجلة في عدد يونيو 1976 لمحمد عبد النباوي الشاب في الثانوي حينها الذي يترأس الآن المجلس الأعلى للسلطة القضائية، ختمها بمقطع من قصيدة محمود درويش “قتلوك في الوادي” (غريب الدار في وطني… غريب الدار)، وينتقد فيها ممارسات بعض أعوان السلطة في تعاملهم مع أحد الباعة المتجولين ومع تلميذ أراد الدفاع عنه في مواجهة الظلم الذي تعرض له، وكانت منشورة إلى جانب مقال للأستاذ عبد السلام بنعبد العالي عن انتقادية النزعة التاريخية عند الفيلسوف الماركسي ألتوسير، أو قصة قصيرة لمحمد أوجار بعنوان “الطريق نحو العالم الآخر”، إلى جانب مقال للكاتب آلان بوسكي بعنوان “لست متفقا معك يا سولجنستاين”، أو قصيدة “تحية النصر للرائد الإمام آية الله الخميني” للشاعر محمد الوديع الآسفي، وقصيدة أحمد هناوي “مقاطع من إلياذة آية الله الخميني”، جنبا إلى جنب مع قصيدة “الشاون” للشاعر عبد الكريم الطبال في عدد سبتمبر 1979، أو قصيدة عبد الإله التهاني “مقاطع تبحث عن عنوان” ينتقد فيها كامب ديفيد ونظام السادات، إلى جانب أقصوصة “جمهورية بوبس” للمسرحي سالم اكويندي التي ينتقد فيها مجموعة من مظاهر العبودية البائدة التي تحط من كرامة المواطنين في عدد يناير 1979… وإضافة لرعاية الأستاذ بوعلو لهذا التنوع، كان يشجع الأقلام الواعدة، حيث نشر أقصوصة لتلميذ في الثانوي من مدينة ابن أحمد بعنوان “محاولات لطرد العفن من القرية” في عدد أبريل 1980، ولم يكن هذا الشاب غير حسن نجمي الذي سيترأس اتحاد كتاب المغرب فيما بعد.

وقد كان تأسيس “أقلام” مشروعا ثقافيا مواكبا لتأسيس “اتحاد كتاب المغرب”، الذي كان الراحل من مؤسسيه وعضوا في مكتبه المركزي الأول الذي حمل اسم “اتحاد كتاب المغرب العربي” في البداية بحكم السقف العالي لحلم توحيد المغرب العربي حينها.

في هذه المجلة نشر القائد السياسي المغربي الشهيد عمر بنجلون واحدا من أهم مقالاته التحليلية حول فلسطين، تحت عنوان “القضية الفلسطينية ودور المثقف المغربي”، وبالضبط في عدد شهر ماي 1972، الذي شكل إطارا نظريا لإعادة تأسيس الوعي الوطني والقومي بالقضية الفلسطينية بعد نكسة 1967.

صدر من “أقلام” 46 عددا بطريقة غير منتظمة، بفعل عامل القمع والتضييق الذي كانت الثقافة الجادة والملتزمة تتعرض له في سنوات الرصاص، حتى توقفت بفعل المنع الذي تعرضت له.

وفيما بعد سيستأنف الأستاذ بوعلو هذا المشروع بمجلة أخرى برفقة الأستاذين محمد عابد الجابري وعبد السلام بنعبد العالي سنة 1997، هي مجلة “فكر ونقد”.

كما أسس الراحل أيضاً مجلة أخرى لم تعمر طويلا بعنوان “القصة والمسرح” سنة 1964، مع كل من عبد الجبار السحيمي ومحمد العربي المساري ومحمد برادة وعلي أومليل.

مثلما أطلق “المجلة الصحية” برفقة الدكتور عبد الكريم العمري سنة 1976، وكانت من أوائل المجلات التي تصدر بلغة الضاد، وتهتم بالأمور الصحية في المغرب والوطن العربي.

من أبرز كتاب القصة في الوطن العربي يعتبر الراحل بوعلو واحدا من أبرز كتاب القصة القصيرة في المغرب والوطن العربي، حيث كتب عدداً من القصص التي تنحو منحى واقعيا ملتزما انتصر فيها لقضايا المظلومين والفقراء والمهمشين، في لحظة الحلم ببناء الوطن بعد التحرر من الاستعمار.

بدأ بوعلو كتابة قصصه مبكرا منذ نهاية الخمسينات، إذ بدأ النشر في بعض المنابر المغربية والعربية مثل “الرأي العام” (سوريا)، “التحرير”، فلسطين، “المحرر”، “الاتحاد الاشتراكي”…، قبل أن ينشرها في مجموعات قصصية.

وقد بدأ هذا الاهتمام عنده في المرحلة نفسها التي بدأ فيها مجموعة من المبدعين العرب نشر إبداعاتهم في هذا المجال مثل يوسف إدريس في مصر، وزكريا تامر في سوريا، والشهيد غسان كنفاني في شتاته بالخليج ولبنان، لكن الشهرة واهتمام النقاد والإعلام العربي لم ينله مثلما نال الأسماء العربية الأخرى التي تحولت إلى أسماء لامعة في مجال الكتابة القصصية العربية لأسباب متعددة؛ قد يكون بينها الثورة المصرية بالنسبة ليوسف إدريس التي رفعت شعار الانتصار للفقراء والمهمشين، خاصة في الريف المصري الذي كانت معاناة أهله مضاعفة من الفقر والمرض، وهو الطبيب الذي نقل آهات الناس وآلامهم.

أما غسان كنفاني فكان لارتباط اسمه بالقضية الفلسطينية وما خلفته النكبة من مآسي على الشعب الفلسطيني ومعالجته لها، ودوره في إعادة بناء الوعي القومي للشعب الفلسطيني ولكل العرب، دور كبير في انتشاره، خاصة أن حياته توجت باستشهاده.

أما زكريا تامر فكان لمجلة “شعر” وصاحبها يوسف الخال دور في إشهاره وتبني منجزه الإبداعي ونقله من التداول المحلي في سوريا ليصبح متداولا على الصعيد العربي في سياق موجة الحداثة التي أعلنت تلك المجلة التبشير بها في الساحة الأدبية العربية.

لكن الأستاذ بوعلو لم يحظ بهذه السياقات الخاصة المساعدة على انتشار اسمه في فضاء الثقافة العربية، رغم وجود تشابه كبير بينه وبين زكريا تامر حتى في الاهتمامات.

إذ إضافة لانشغالهما بالكتابة القصصية، انصب اهتمامهما بالطفولة، من خلال إصدار الراحل مجلة “أزهار” سنة 1976 التي كان يكتب كل أبوابها ويرسم صورها التي تفتح قلوب الأطفال وعقولهم على العلم والمعرفة والفرح بأسلوب يراعي سنهم ويفتح المجال أمام ذكائهم وخيالهم.

في حين كان زكريا تامر أحد الآباء الروحيين لمجلة “أسامة” التي أسسها عام 1969 مع الكاتب سعد الله ونوس والكاريكاتير ممتاز البحرة.

وإضافة لاهتمامه القصصي، اهتم بوعلو بالكتابة المسرحية والروائية والسيناريو.

نذكر من مجموعاته القصصية: “السقف”، “الفارس والحصان”، “البناية الجديدة”، “الحوت والصياد”.

وكان من أوائل مبدعي القصة القصيرة جدا، حيث كتب فيها: “خمسون أقصوصة في خمسين دقيقة”، “الجماعة”، “الأمر يهمك”، “الصورة الكبيرة”.

و”قبل الثامنة” التي لم تصدر.

مثلما ألف في المسرح: “الجولة الأولى”، “أربعة طلاب”، “الاتفاق”، “عودة الأوباش”، “دعونا نمثل”، “وثائق من القرن العشرين”.

كما كتب رواية “الهروب”.

لكن الكتابة القصصية كانت عشقه الأكبر حيث بدأ بها مساره الإبداعي وختمه بها.

كان الراحل بوعلو أمينا لمقولة أبيقور “علينا أن نتفلسف ونحن ضاحكون”، يرددها في درسه، ويمارسها في طريقة تدريسه، ويجسدها في كتاباته الإبداعية المتنوعة قصّا وسردا روائيا، مثلما جسّدها تواصلا وخِفة ظل في علاقاته الإنسانية رحمه الله وأكرم مثواه في ديار الخالدين.

*كاتب مغربي مهتم بقضايا الثقافة وتاريخ الأفكار

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 2 أسابيع | 4 قراءة)
.