د. حسن القصبي يكتب: «وَرَحْمَتي وَسِعَتْ كُلَّ شَيءٍ»

«وَرَحْمَتى وَسِعَتْ كُلَّ شَىءٍ» إن المتأمل فى الآية الكريمة يجد أنها شاملة جامعة لكل جوانب الحياة، الرحمة التى جاء بها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليست مقصورة على رقة القلب فى المواقف الإنسانية، ولكنها تشمل العبادات والمعاملات والأخلاق والآداب والأوامر والنواهى والقصص والمواعظ والأمثال.

وما ذلك إلا لهداية البشر لما فيه خير لهم، وتصحيح المفاهيم، وبيان علاقة المخلوق بالخالق جل وعلا.

فتظهر الرحمة فى العبادات من خلال تيسرها أداء ووقتاً، وجعلها فى قدرة كل عبد«لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا» «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ»، فالعبادات قائمة على التيسر على قدر الاستطاعة دون تفريط، قال النبى صلى الله عليه وسلم: «وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم»، كما جعل الله سبحانه وتعالى عقب كل عبادة كبرى سنناً تجبر ما كان من تقصير أثناء القيام بها، فجعل للفريضة سنناً تعقبها، وجعل لرمضان ستة من شوال، وجعل للزكاة صدقات، فإذا نظرنا إلى جانب المعاملات وجدنا أنها قائمة على الحقوق والواجبات يصاحبها الرحمة، ولذلك لم يأمر الله عز وجل فى القرآن بالعدل فقط وإنما أمر بالعدل والإحسان، الذى يظهر فيه الرحمة فى أبهى صورها لأن كثيراً من المعاملات قائمة على الرحمة، كما فى معاملة الأبناء والآباء، والأزواج والزوجات، والجيران، والأصحاب، والأصهار، وصاحب العمل ومن تحت يديه.

حتى فى معاملة الآخر نرى قمة الرحمة من النبى محمد صلى الله عليه وسلم إجباره اليهودى، وإذا نظرنا إلى الأخلاق فما وصل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى القلوب والعقول إلا بهذه الرحمة، وصدق ربنا سبحانه وتعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ»، وتظهر الرحمة فى الأوامر والنواهى فمن أحبك دلك على كل خير ونهاك عن كل شر، ومن مظاهر الرحمة تصحيح المفاهيم المغلوطة التى زينها البعض فى نفوس الشباب كإطلاق البدعة على كل أمر لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم، فيبين لنا النبى صلى الله عليه وسلم روابطها فى قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وعلى العموم فإن بعثة النبى صلى الله عليه وسلم أصلها رحمة للبشرية كلها «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ»، فالرحيم سبحانه أرسل لنا نبى الرحمة صلى الله عليه وسلم.

وإذا تأملنا القصص الوارد فى القرآن الكريم وجدنا أنه قمة الرحمة، حيث علمنا ربنا جلّ وعلا من خلال القرآن الكريم فى قصصه، والوارد فيه قصص الأنبياء جميعاً، قصة سيدنا موسى وعيسى ولوط ويونس، قصص الأنبياء جميعاً، الأمثال التى تعلمنا كيف نهتدى فى حياتنا، كيف نسير فى هذه الحياة، كيف نتعامل مع بعضنا البعض، كيف نعايش المِحن ونمر عليها ونتمسك عندها، وكيف نأخذ المنح الإلهية، كل ذلك ورد فى قصص القرآن الكريم، ولذلك قال ربنا سبحانه وتعالى: «لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»، فكأن ما ورد فى القصص هذا لا نقرأه على أنه سرد، وإنما هو رحمةٌ من الله جلّ وعلا، رأينا ذلك فى ضرب الأمثال، المثل يقرب الصورة إلى الأذهان، الله يقرب إلينا الصور الجميلة كصورة الجنة «مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى»، يضرب الله لنا الأمثلة فيما هو محبب إلى النفوس حتى نشتاق إليها وحتى نعمل لها وذلك رحمة من الله عز وجلّ.

ويضرب الله لنا الأمثال فى القرآن الكريم أيضاً لجزاء مَن عمل سيئة حتى نبتعد عنها ولا نقترفها، وذلك رحمة من الله عز وجلّ، فكأن الرحمة شاملة لكل مناحى الحياة، شاملة لكل أمر من أمور حياتنا، والذى طبق لنا ذلك عملياً على أرض الواقع هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، طبق لنا ذلك كله فى كل المجالات حتى تحقق فيه على أرض الواقع «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»، فمن أراد جانباً من جوانب الرحمة ما عليه إلا أن يفتش فى سيرة النبى صلى الله عليه وسلم، فى الجانب الذى يريده، سيجد موقفاً عملياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فى جانب الرحمة، فى كل الجوانب تجد الرحمة لأن الله عز وجلّ أرسله رحمة، ليس إرسال الأنبياء إلا رحمات من الله عز وجلّ، وختم الرحمة بخير الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، هذه الرحمة النعمة التى أرسلها الله إلينا.

.

اسأل الله أن يرزقنا الرحمة فى الدنيا والآخرة.

مصر      |      المصدر: الوطن نيوز    (منذ: 4 أسابيع | 3 قراءة)
.