الإنسان وحلم المساواة: قراءة في معطيات التاريخ والتجارب الإنسانية

انتظمت حياة البشر في عصور تاريخيّة وسحيقة بظهور المدن، ومن هنا بدأ العالم يعرف الحياة المدنية، وعرفت مصر وبلاد الرافدين حوالي 3500 قبل الميلاد شكلَ الدولة، وسرعان ما أعقب ذلك تطور مماثل في ضفاف النهر الأصفر (هونغ هو)، وفي نهر السند، وبيرو، وأميركا الوسطى.

ربط بعض العلماء قيام الدول من حيث تطور وسائل السيطرة على السكان، لكن هذا الربط لا يمكننا أثريًا من التمييز بين المؤسسات العسكرية والشرطة في البقايا الأثرية للمجتمعات البدائية، بينما سعى اتجاه آخر لاتخاذ بعض الصفات كدلالة على الحضارة، مثل الكتابة والحِرف ذات الصبغة الفنية، وبعض أوجه الثقافة التي يتم إنتاجها عن طريق المتخصصين.

تسلسل هرمي لكن مايكل هوفمان يرى أنّ: (أهم الصفات البارزة التي تنتج عن عملية الانتقال المعقدة "التمدن"، هي ظهور مجموعات من الناس قادرة على تركيز قدر من السلطة في أيديهم؛ أي كل مقومات الدولة ابتداءً من: المعابد، الاحتفالات العامة، الحروب، العمارة الرسمية، التجارة، وحتى النظم الاجتماعية، والاقتصادية، حيث تظهر النخبة في ظل تجسيد القوة، ودوامة المركزية).

لذا، فإنّ فنون الحضارة ليست في الحقيقة جوهر الدولة "المجتمع"، ولكنها مجرد ظاهرة ثانوية تختلف من مكان إلى آخر، ففي حين يعتقد معظم الباحثين أن الدول تتطور مع تطور المدن، فإن المدن ليست دائمًا ضرورية لنشأة الدول، فالإمبراطورية القديمة في أدغال كمبوديا تكونت أساسًا بدون الاعتماد على المدن، على الرغم من أنها كانت تمتلك مراكز إدارية رسمية، وبالمثل فإن المغول الرحّل بقيادة جنكيز خان أنشؤُوا واحدة من كبرى الإمبراطوريات التي عرفها العالم – إلى حد كبير- من دون الاعتماد على المدن.

لكن الدول في النهاية تقوم على التسلسل الهرمي للمجتمع، عكس القبيلة أو المجتمع البدائي الذي يوجد فيه مستوى واحد من السلطة أعلى من إنتاج المواد الغذائية لهذا المجتمع، ذلك المجتمع الذي يقيم فيه الرئيس جنبًا إلى جنب مع رفاقه والحِرفيين والخدم.

في الدولة هناك مستويات متعددة للسلطة، معقدة تؤدي إلى تركيز القوة "السيطرة" التي تحتاج إلى زيادة أكبر في الإنتاج وتنوع في أدواته، وتبادل سلعي وقيم روحية، هذا كله يؤدي إلى تسلسل هرمي في المجتمع، وإلى ظهور عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية بين الصيادين والفلاحين والتجار ورجال الدين وممثلي السلطة والإدارة، وهذا كله يؤشر إلى هرمية السلطة والمجتمع.

نظرة جامحة لكن بقي حلم المساواة يراود البشرية منذ أفلاطون، ونرى أنه من قبل حتى أفلاطون، حيث حاول هؤلاء الحالمون القضاء على التمييز الاجتماعي للحصول على مجتمع غير هرمي، لكن علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا توصلوا إلى أنه لا يمكن لمجتمع معقد أو مجموعة كبيرة من الناس داخل مجتمع متكامل أن ينفصلوا عن التنظيمات الهرمية، فكلُّ المجتمعات الصناعية المعاصرة تبدو معقدة للغاية، بحيث إنها لا تستطيع البقاء في ظل غياب البنية الهرمية أو التسلسل الهرمي للمجتمع.

وهناك بعض المجتمعات الصغيرة من الناس ربما ينجحون في تشكيل مجتمعات متساوية أو مجتمعات غير هرمية، ولكن هذه الفئات المجتمعية لا يمكن أن تتجاوز أعدادهم أكثر من بضع مئات من الأشخاص، ويتم ذلك عن طريق عدم تطوير بعض أشكال التسلسل الهرمي.

إن المجتمعات التي تحاول الصمود أمام التأثيرات السلبية الناجمة عن المصالح المتباينة، والشخصيات الدينية، وتضارب الأولويات، تدين في واقع الأمر لاستمراريتها إلى منتجات حديثة، ونظم جديدة حصلوا عليها من المجتمعات الهرمية التي يفرون منها.

لذا فإن الدعوة إلى عزلتهم على غرار جماعة التكفير والهجرة في مصر خلال حقبة السبعينيات، تجعل من المستحيل إنتاج السيارات والطاقة والخدمات الطبية، فبدون التنظيم الهرمي لن يكون هناك تقييد لرغبات الناس والسلوك الفردي، وبدون هذه القيود ستكون النتيجة هي الفوضى الثقافية.

في مجتمع المساواة المطلقة بكل بساطة سيكون لكل عامل في محطة توليد الكهرباء تحديد ما ينبغي إنتاجه من الكهرباء، ولمن ينبغي أن تذهب، إلى درجة أن المجتمعات المتساوية ستجد أنه من الصعب العيش بدون المنتجات الحديثة والخدمات.

إذًا فوجود المجتمعات يتوقف على وجود التسلسل الهرمي، لكن على الجانب الآخر، الناس ينظرون إلى التنظيمات الهرمية نظرة جامحة، حيث إن القرارات الصادرة عنها تؤثر على حياتهم بطرق تجعلهم يشعرون بالاستياء، فجميعنا يُعاني من التلوث والنُفايات السامّة والتعدي على الأراضي الزراعية المنتجة للغذاء وتحويلها إلى مبانٍ، فهل الرجوع إلى النمط القبلي هو الحل؟، ويروج البعض أن تنظيم العمل السياسي هو الحل العملي الوحيد، ولكن لن يتم تفعيل ذلك إلا بالتسلسل الهرمي، الذي قاد المجتمعات القديمة لبناء الدولة، هنا ينطلق علماء الآثار للبحث في بنية المجتمعات القديمة وتطورها.

تحالفات مؤقتة في كثير من مناطق العالم نجح الكثير من الرجال الكبار سواء اجتماعيًا كرؤساء قبائل أو عشائر، أو حتى كبار في السن لديهم هيبة / حكمة في الوصول لقيادة مجتمعاتهم، وأن يعيدوا تنظيمها، كان القائد يعيد صياغة المجتمع وَفق المجتمع ووفق رؤيته للسلطة، ويصاحب هذا إعادة توزيع الثروة.

كان زعماء القبائل يقيمون تحالفات فيما بينهم، لكنها كانت مؤقتة إلا إذا خضع بعضهم بالقوة لأحدهم، هنا نجد أن التجربة التاريخية تذكر أن المجتمعات التي تولى قيادتها زعيم وجدوا أنفسهم يتحركون إلى أسلوب جديد بعيد عن التنظيمات الأكثر تعقيدًا التي ورثوها: نابليون بونابرت، ومحمد علي في مصر، لذا فإنّ وجود الدولة في حجمها وتعقيدها وسلطتها، كان ابتكارًا، لكنها دائمًا في حاجة ماسّة إلى التحديث والتغيير؛ لتواكب متغيرات المجتمعات وتطوراتها.

لكنّ هناك شيئًا ما غيّر من سلوكيات هذه المجتمعات، بسببه تم اجتياز حواجز المساواة، وسيوافق غالبية المجتمع على مبادئ عدم المساواة، وذلك من أجل الوصول إلى الموارد الطبيعية، لذا فإن النخب الحاكمة، تكون عادة في وضع يمكنها من الضغط لزيادة سيطرتها.

لكن الجديد هو بالخطاب الإقناعي التبريري، في الوقت الذي يستمرون فيه في البحث عن وسائل جديدة لزيادة كل من العائدات والخدمات والسلع، مما يجعلهم يحصلون على تأييد مناصرهم في مجتمعاتهم، وغير مجتمعاتهم على حد سواء، قسْ على ذلك – في عصرنا – النجاح الذي حققته الصين والذي جعل بها حزبًا واحدًا يسيطر على السلطة لعقود.

لكن هذا السعي نحو الاقتصاد يجعل الطبقات الحاكمة عبر العصور تقدم للطبقات الأخرى المستضعفة سياسات تبريرية، أو تجبرها على الخضوع أو الخنوع أو الاستلاب أو التضحية، فنرى تارة العبودية، وتارة السخرة، وتارة الوقوع تحت سحر الإعلام، هنا الاستغلال هو سمة السلطة عبر العصور، لذا فإنه من الصعب تخيل أي نظام هرمي يعمل بصورة معقدة دون استغلال.

سيطرة وتوسع إن الحاجز القوي في تكوين أي دولة هو قيم المساواة، هنا نستدعي من التاريخ كيف استطاع كبار رجال الدولة والرؤساء أن يتعاملوا مع هذه القيم، فنجد في البيئات ذات الإمكانات الكبيرة لإنتاج الغذاء مثل الشرق الأدنى (مصر والعراق) وحوض النهر الأصفر في الصين، أن كبار الرجال سرعان ما أصبحوا رؤساء، والرؤساء سرعان ما أصبحوا ملوكًا.

في هذه المناطق حاول الرؤساء بسهولة ابتكار وسائل لكسب المزيد والمزيد من السيطرة على الإنتاج المحتمل من الناس والأرض، كما حاولوا التوسع من خلال غزو الأراضي المجاورة، لتنمو ثرواتهم، وحاولوا التعامل مع رعاياهم بكل الطرق من خلال التودد إليهم تارة وإقناعهم تارة أخرى، وإكراههم أحيانًا، وذلك من أجل العمل بجد وبمعدل أكبر.

لكن يذهب علماء الاجتماع إلى أن الناس في القرى المتساوية ربما سينتجون أكثر، لكن لن يكون هناك فرصة للمتعة، لكن الوضع الأصعب هؤلاء الرعايا في الدول يعملون في ظروف شاقة كل يوم لمجرد البقاء على قيد الحياة، وفي ذات الوقت نجد آخرين في ذات الدولة أخلصوا في أعمالهم من أجل السلطة والثروة؛ بهدف العيش في مستوى أعلى من المعيشة.

هنا الحاكم يسعى للسيطرة على كل الموارد في منطقته، ولا بدّ أن يفعل ذلك بأقصى قدر من الفاعلية من خلال حشد طاقات جميع الناس في المجتمعات التي يسيطر عليها، وبعبارة أخرى من خلال تنظيم منطقته كدولة، هنا يبرز تنظيم الدولة في صورة مؤسسات وجماعات وأفراد يتبادلون المصالح، حيث تبرز ديناميكية شبكات التجارة على غرار التجارة بين العراق وبلاد السند، ومصر وشمال أفريقيا وبلاد الشام في العصور القديمة.

ونرى أفضل الجيوش تجهيزًا وأكثر الأنظمة فاعلية في جمع المعلومات، هذه التنظيمات كانت ضرورية لحماية الدول والمجتمعات من الآخَر، هذا ما نجحت فيه مصر في أغلب العصور الفرعونية والعراق في خلال العصور السومرية والأكدية والآشورية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

الوكالات      |      المصدر: الجزيرة    (منذ: 4 أسابيع | 4 قراءة)
.