اقتصادات متباينة وديون متعاظمة

منذ عقد كامل والاتحاد الأوروبي يعاني بشكل مستمر الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة، تلك الأوضاع التي ألقت بظلال شديدة السواد على الفوائد التي كان الأوروبيون يرجونها من الاتحاد، فقد كان كثير من أزمة الديون، التي نتجت عن التعثرات المالية الكبرى إبان الأزمة المالية العالمية 2008، وقد تورطت دول مثل: اليونان والبرتغال حتى إيطاليا وإسبانيا، وتطلب الأمر قيام المفوضية الأوروبية بتنفيذ حزمة إنقاذ كبيرة لمعالجة هذا الوضع الاقتصادي الخطير والمتدهور في استمراره.

ولكن ما إن هدأت تلك الأزمة حتى تفجرت أزمة الديون اليونانية، التي استمرت حتى منتصف العقد الماضي وكادت أن تؤدي إلى خروج اليونان من اليورو وعودتها إلى عملتها الوطنية، ولم ينته العقد حتى خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كله بعد إقرار اتفاق "بريكست".

وهزت تلك الخطوة قيمة اليورو بشكل جوهري، وفيما كانت أوروبا تلتقط أنفاسها وتدرس الحالة الاقتصادية فيما بعد "بريكست"، انتشرت جائحة كورونا بشكل كبير هناك، وأدى الارتفاع في أعداد الإصابات بفيروس كورونا إلى سياسات إغلاق متشددة لمواجهة الوباء.

وبالتأكيد، كان لهذه الإجراءات أثر اقتصادي مؤلم وحاد، حيث استمرت نحو عام، وكانت الآمال معقودة على انحسار الوباء، وتعافي الاقتصاد، لكن عودة الانتشار وسياسات الإغلاق، بخرت كل آمال عودة النمو الاقتصادي، مع توقعات بأن معظم المؤشرات الاقتصادية للربع الأول من هذا العام لن تكون إيجابية، وأن التعافي الاقتصادي لن يعود حتى تنجح حكومات ودول المنطقة الـ19 في السيطرة على الفيروس، أو أن تبلغ معدلات التطعيم باللقاحات مستويات آمنة تسمح بإعادة استئناف النشاط الاقتصادي.

وفقا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، كان الاقتصاد الإسباني الأكثر تضررا العام الماضي، وتقلص الناتج المحلي الإجمالي بنحو 12 في المائة تقريبا.

أما في فرنسا وإيطاليا، فإن نسبة التراجع الاقتصادي بلغت 9.

1 في المائة، بينما شهدت ألمانيا انكماشا 5.

5 في المائة.

وإذا كان انتشار الفيروس هو المسؤول الأول عن هذه التداعيات، فلا يمكن إنكار الأثر التراكمي للأزمات الأوروبية منذ عقد كامل تقريبا، التي جعلت عددا من التقارير ترى أن أداء اقتصادات دول منطقة اليورو سيكون متباينا إلى حد كبير.

فقد استطاعت دول الشرق العودة بقوة، بينما الأضرار ما زالت عميقة في أوروبا، والبعض يرى أن هذا قد يرجع إلى بنية الاقتصاد الأوروبي، التي اعتمدت على السياحة أكثر من غيرها.

ولهذا أيضا، ظهرت الدول الأوروبية الصناعية مثل ألمانيا أقل تضررا، وهذا يعطي دلالات شديدة الأهمية على ضرورة التنوع الاقتصادي وعدم الركون إلى أي قطاع كمحرك أساسي، ذلك أن التقلبات الاقتصادية لم تعد ناشئة من أزمات اقتصادية بحتة، بل هناك اليوم تقلبات بيئية لها آثار اقتصادية عميقة.

  وفي سياق الأثر التراكمي للأزمات الأوروبية، ووفقا للتقرير الذي نشرته "الاقتصادية" قبل أيام، فإن الديون ستمثل التحدي الأبرز لمعظم إن لم يكن جميع حكومات منطقة اليورو دون استثناء.

فالأزمة المالية العالمية، التي انتشرت في العقد الماضي، أثبتت صعوبة الاستمرار عند الأسقف التي حددتها المفوضية الأوروبية، وهي المحافظة على عجز عند حدود 3 في المائة، ونسبة 60 في المائة ديون، قياسا بالناتج المحلي.

لكن الأزمات المتراكمة أجبرت دول اليورو على التخلي عن هذه القيود، فقد أدى وباء كورونا إلى زيادة الديون بأكثر من 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في كثير من دول منطقة اليورو، ويقترب إجمالي ديون المنطقة من 11 تريليون يورو.

ودفع هذا الوضع المفوضية الأوروبية، ولأول مرة، إلى الاقتراض من الأسواق عبر صندوق التعافي بقيمة 750 مليار يورو، لتقديم المنح والقروض للدول الأعضاء، وهذا الوضع مع تباين كبير في الحالة الاقتصادية وتوقعات النمو بين دول الاتحاد، ما دعا بعض المحللين، الذين استقرأت "الاقتصادية" آراءهم، يرون أن منطقة اليورو ستشهد صراعا حادا حول كيفية سداد ديونها، ويبدو أن جميع الحلول تعيد إلى الأذهان المشهد اليوناني، فرفع الضرائب سيضع ضغوطا معيشية على السكان، وقد يعرقل الانتعاش الاقتصادي نسبيا، والإصرار على قواعد الاتحاد الأوروبي بالنسبة إلى العجز والديون سيقود إلى أزمة يورو جديدة وأشد عمقا.

وتبدو السماء الأوروبية ملبدة بغيوم أزمات ضخمة، سياسية واقتصادية معا، فرحيل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل سيفجر النزاع الأوروبي بشأن الصرامة الاقتصادية بين الألمان والهولنديين من جانب، والفرنسيين والإيطاليين واليونانيين من جانب آخر، خاصة مع الإرهاق الذي أصاب الاقتصاد الألماني جراء قيامه بدور القاطرة للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو.

لكن في وسط هذا النفق يبدو أن أزمة كورونا أسهمت في ارتفاع معدلات الادخار التي بلغت 19 في المائة العام الماضي مقابل 13 في المائة خلال 2019، ونجحت الأسر في دول الاتحاد الأوروبي في توفير ما يقدر بـ450 مليار دولار العام الماضي، مقارنة بـ2019، وهذا قد يكون خبرا جيدا إذا تم تحفيز الاستهلاك بعد توقف الجائحة، وقد يكون تغيرا جذريا في سلوك المستهلكين.

وحتى تتبين الصورة، فإن الاقتصاد الأوروبي سيظل متأزما بسبب التعرض العنيف لتداعيات جائحة فيروس كورونا، كما أنه يعاني من قبل أزمات ديون في عدد من دوله الـ27.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 3 سنوات | 197 قراءة)
.