هذه مسارات صعود وتراجع هيمنة الدولار الأمريكي في المنظومة العالمية‎

أصبحت للدولار الأمريكي مكانة متميزة في الاقتصاد الدولي، حيث هيمن عليه لما يزيد على قرن؛ وهو ما زاد من نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى العالمي، وإن كانت هناك بعض المحاولات من جانب الصين وروسيا للبحث عن بدائل لنظام الدفع القائم على الدولار، بسبب تزايد العقوبات المالية لواشنطن إلى جانب التقلبات التي شهدتها الفترة الرئاسية لدونالد ترامب.

ومن منظور ورقة بحثية، منشورة بمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة؛ فلا عجب اليوم أن المستثمرين أصحاب الرؤية، مثل راي داليو، ينصحون أي شخص بالتحضير لمستقبل يتجاوز الدولار، نظرًا لاعتقادهم بوجود دورة متكررة لصعود وسقوط الإمبراطوريات المالية.

ومما يدعم من هذا الطرح، وفق المقالة، أن تاريخ هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي كانت تتخلله العديد من الأزمات؛ وهو ما يجعل البعض يتحدث عن نهاية هيمنة الدولار قبل نصف قرن من الآن.

وهذا الطرح هو ما يركز عليه آدم توز في مقالته المعنونة “صعود وسقوط الإمبراطورية المالية الأمريكية” بمجلة “الشؤون الخارجية” التي تحاول الإجابة عن تساؤل: هل ستستمر هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي أم لا؟ #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} الصعود المفاجئ كان الصعود المفاجئ للولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الأولى باعتبارها القوة المالية المهيمنة في العالم بمثابة صدمة للجميع، حسب الوثيقة؛ ذلك أنه، بحلول عام 1916، كان الدولار هو العملة الوحيدة التي تتيح الوصول إلى المواد الخام لتطوير القدرات الصناعية وخلق فرص العمل.

ولكن الانعزالية الأمريكية في فترة ما بين الحربين أدت إلى ترك النخب الليبرالية الأوروبية واليابان فريسة لضغوط الأسواق المالية الأخرى، وكانت تلك مقدمة لتشكل الأنظمة الاستبدادية في إيطاليا وألمانيا واليابان.

وقد انعكس ذلك على عدم تماسك السياسة المالية الأمريكية بحلول الثلاثينيات من القرن العشرين؛ وذلك لتخلف بعض الدول عن سداد ديون الحرب للولايات المتحدة، مثل بريطانيا وفرنسا.

وقد حاولت الدول الأوروبية تجنب هذا الوضع مرة أخرى أثناء الحرب العالمية الثانية، بتصميم برنامج الإقراض والإيجار لتجنب ظهور مشكلة ديون الحرب مرة أخرى.

رؤية جديدة تفيد المقالة بأنه كان من المفترض، بعد عقد اتفاقية بريتون وودز، أن يتحقق نوع من التوازن المستقر بين أسعار الصرف الثابتة المرتكزة على الدولار وحركة محدودة لرأس المال من أجل دفع عجلة التجارة والاستثمار؛ لكن لم تنجح الاتفاقية في تحقيق ذلك الهدف، ليس فقط بسبب الإسراف الأمريكي، بل أيضًا بسبب النقص العالمي الكبير في حيازة الدولار، والحالة المتردية للاقتصاد الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية.

وأدى التبادل المحدود للعملات الأوروبية في مقابل الدولار إلى هيمنة الدولار على السوق المالية العالمية.

ومما زاد من هيمنة الدولار معاناة بريطانيا -وهي الدولة الوحيدة في ذلك الوقت التي حاولت تنفيذ اتفاقية بريتون وودز- في عام 1947 من أزمة مالية حادة أجبرتها على الاعتماد على التمويل الأمريكي، والذي انتهى باعتماد خطة مارشال لإعادة إعمار أوروبا.

وفي الحقيقة، حال نظام بريتون وودز، القائم على نظام أسعار الصرف الثابتة، دون تعرض الدولار لعمليات المضاربة، والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى انخفاض سعر صرف العملة الأمريكية؛ وذلك بعد تحقيق الاقتصادات الأوروبية واليابانية قفزات قوية، بعد زيادة صادراتها للولايات المتحدة الأمريكية أو من خلال زيادة معدلات التجارة العالمية، وقد أدى هذا بالطبع إلى زيادة مخزونها من الدولار الأمريكي.

العصر الحديث للنقود الورقية انتهت في عام 1971 عملية ربط الذهب بالدولار، عندما أعلن عن ذلك الرئيس ريتشارد نيكسون في غشت من هذا العام.

فلأول مرة في التاريخ، لم يتم ربط أي عملة في العالم بالذهب أو بأي معدن نفيس آخر.

وقد أدى ذلك إلى انخفاض قيمة الدولار في مقابل ارتفاع عملتي كل من اليابان وألمانيا.

ومع هذا الانزلاق في قيمة الدولار تم إنشاء مجموعة الـ7 لإدارة الضغوط الناتجة عن ذلك، وفي الوقت نفسه بدأ العالم في البحث عن عملة أكثر موثوقية لإدارة النظام المالي العالمي، وكانت حقوق السحب الخاصة أحد الخيارات المتاحة في هذا الإطار.

وبعد تجاوز حدود اتفاقية بريتون وودز، ازدهرت أسواق العملات والأسواق المالية الأخرى، وأصبحت بنوك وول ستريت في نيويوك ولندن هي المحركات المهيمنة لهذا النظام المالي الجديد.

وقد زاد هذا الوضع من التدفق الكبير للأموال الساخنة بين المراكز المالية في العالم، وساهم بشكل خطير في تعقد الأسواق المالية العالمية.

ذروة الأحاديةحسب الورقة البحثية، فقد أطلقت مجلة “تايم” الأمريكية على كل من آلان جرينسبان، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي، وروبرت روبين، وزير الخزانة، ونائبه لورانس سمرز، لجنة إنقاذ العالم؛ فقد حاولت وزارة الخزانة الأمريكية إدارة بعض الأزمات المالية، مثل: أزمة المكسيك (1994-1995)، والاقتصادات الآسيوية 1997، وروسيا 1998، والأرجنتين 2001، وذلك من خلال مجموعة من القروض الجديدة، وإعادة هيكلة الديون، وما يسمى بالتكيف الهيكلي.

ولكن واجهت وزارة الخزانة انتقادات واسعة من الكونجرس الأمريكي الذي استاء من مساعدة الدول الأجنبية.

كما أدركت الدول الأوروبية في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي أن النظام المالي العالمي بأكمله يشجع فقط التوسع المالي غير المسؤول؛ فقد كان الضرر الذي لحق بشرعية الأنظمة المدينة، مثل نظام سوهارتو في إندونسيا والمؤسسات التي تعمل الولايات المتحدة من خلالها، ولا سيما صندوق النقد الدولي، شديدًا.

وكان الحل أمام العديد من الأسواق الناشئة لتجنب الخضوع للقروض الأمريكية هو تنمية الاقتراض السيادي بالعملة المحلية بدلًا من الدولار.

وفي ظل التحول الكبير في اقتصادها، كانت الصين عازمة على تجنب مصير أقرانها في الاقتصادات الناشئة؛ فقد ربطت عملتها بالدولار بسعر مقوم بأقل من قيمتها، واستخدمت ضوابط الصرف لتنظيم تدفق الأموال الضرورية للتجارة والاستثمار طويل الأجل.

والحقيقة كانت الصين تتبع الإستراتيجية الاقتصادية نفسها التي اتبعتها الدول الأوروبية واليابان خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، أي إعادة إحياء نظام بريتون وودز من جديد.

وقد حاولت الولايات المتحدة الأمريكية مواجهة هذا الوضع الجديد الذي أحدثته الصين من خلال فرض رسوم باهظة على عملية تدفق الأموال، في الوقت الذي ارتفعت فيه الواردات الأوروبية من الصين؛ مما شكل صدمة كبيرة.

الانهيار الكبير كشفت الأزمة المالية العالمية عام 2008 عن اعتماد كبير على الولايات المتحدة الأمريكية؛ فبدلًا من أن تقلب هذه الأزمة النظام المالي العالمي القائم على الدولار، أضحى العالم في حاجة إلى الاعتماد على الائتمان المقوم بالدولار، وهو ما اتضح في الجهود التي بذلها الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لدعم النظام المصرفي عبر الأطلسي عن طريق ضخ سيولة بالدولار لكل من البنوك الأوروبية والآسيوية، تضيف المقالة.

ولكن لم تمنع هذه الجهود من تفاقم أزمة منطقة اليورو التي دخلت في أزمة ديون سيادية كاملة.

وخلال هذه الفترة، انهارت الثقة العالمية في اليورو، حيث أدت البنوك المتعثرة إلى خفض التصنيفات الائتمانية الحكومية؛ الأمر الذي ترك الدول الأوروبية المتعثرة غير قادرة على دعم النظام المالي، في حين أن الميزانية الفيدرالية الحكومية الأمريكية كانت أكثر قوة خلال الأزمة.

وقد أدت تدخلات بنك الاحتياطي الفيدرالي في الأزمة إلى إغراق العالم بأسره بالسيولة الدولارية؛ مما أدى إلى ارتفاع الاقتراض بالدولار، وامتد ذلك ليشمل دول إفريقيا جنوب الصحراء، بل إن إغراء الدولار وصل حتى إلى الصين، على الرغم من أن الصين في تلك الفترة كانت لديها خطة طموحة بشأن تدويل عملتها (اليوان)، وذلك بالتزامن مع صعودها الاقتصادي الكبير.

مستقبل هيمنة الدولار تُعتبر الحرب هي النموذج الوحيد في العصر الحديث الذي يُحدث تحولًا وانتقالًا في العملة المهيمنة؛ فالحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية كانتا وراء انهيار الإمبراطورية البريطانية العالمية والتمهيد لهيمنة الدولار.

ومع الصعود الصيني الكبير، هل سيتكرر المشهد مرة أخرى؟ هذا أمر غير محتمل، لأن التحول والانتقال قد يحدث بصورة تدريجية، لأن القضية الأساسية أصبحت تنصب على مدى قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على جذب الاستثمار.

وأضحى من المشاهد أن التوازن في الاقتصاد العالمي يتحول نحو آسيا، لا سيما في ظل ثورة الطاقة الخضراء وما أحدثته من تقلبات شديدة في السوق العالمية للنفط والغاز والفحم، وفي ظل تطور العملات الرقمية، وسيطرة بنك الصين الشعبي على سوقها بصورة كبيرة.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 11 قراءة)
.