ينتظر..

الجو معتدل في جزيرة لانزاروتي الهادئة.

تقع الجزيرة في أقصى الشرق من جزر الكناري في المحيط الأطلسي بالقرب من الساحل الجنوبي للمغرب، وتبعد 125 كلم عن ساحل إفريقيا.

سماء صافية تتخللها بعض السحب، والحركة بدأت تدب قريبا من شارع الكورنيش الممتد على طول الشاطئ منتهيا بوسط المدينة.

استيقظ سعيد كعادته منذ وصوله إلى الجزيرة على متن قارب متوسط رفقة مجموعة من المهاجرين، وتوجه إلى الشاطئ ليغتسل ويُعدِّل من هندامه.

في زاوية متوارية عند نهاية الكورنيش ينام سعيد رفقة خمسة من زملائه تحت خيمة بلاستيكية يتوسطها عمود من الخشب، البلاستيك يخفف عليهم قسوة البرد في الليل.

توجه سعيد نحو الشارع بعد أن اغتسل بماء البحر، وعدّل من هندامه يبحث عن فطور اليوم، في طريقه يجمع زجاجات البيرة الفارغة، ويفرغ ما تبقى في كل واحدة منها في إحداهن، ويلتهم بقايا سندوتشات ينتشلها من أكياس النفايات المعلقة في أعمدة الكهرباء؛ يجلس على درج مدخل دار البريد وهو يشرب ما جمعه من سائل البيرة، وينتظر… ما إن يخيم الظلام على الجزيرة الفارغة من السياح بسبب فيروس الكوفيد اللعين، ويسود هدوء الليل حتى يعود سعيد إلى خيمته.

على بعد مئات الأمتار من خيمة سعيد ورفاقه تتألق أضواء بهو أوطيل مصنف يطل بطوابقه الستة على المحيط ورمال شاطئ باباغاجو الذهبية.

يلتحف سعيد الأرض بالقرب من رفاقه ويخرج من جيبه كيسا صغيرا مليئا بأعقاب سجائر جمعها من شوارع المدينة، يشعل إحداها وهو ينظر أحيانا إلى السماء التي بدت صافية، وأحيانا أخرى إلى الفندق الفارغ من النزلاء، ويستمع إلى صوت الأمواج وهي تتكسر على الشاطئ، وينتظر… #div-gpt-ad-1608049251753-0{display:flex; justify-content: center; align-items: center; align-content: center;} مرت 23 يوما منذ وصوله إلى الجزيرة قادما من شاطئ قريب من مدينة طانطان المغربية، كان يشتغل نادلا في مقهى بمدينة أكادير، وكان أجره بالكاد يكفيه للعيش مع أبيه العاطل عن العمل، وأمه وستة من إخوته.

كان رغم ذلك مقتنعا بالعيش في بلده ويرفض مغامرة الهجرة، وجاء كوفيد 19 وقررت الحكومة الحجر وإغلاق المقاهي، ولم يعد لسعيد وعائلته من دخل سوى مساعدة 800 درهم وزعتها الحكومة في بداية الحجر، وبعد أسابيع نقل والده إلى المستشفى، حيث توفي بسبب الكوفيد حسب ما أخبرته به السلطات المحلية، ومنع من رؤيته قبل دفنه، فقط رخّص له بالحضور لحظة الدفن ليبكي والده وقدره وينتظر.

.

شريط الأحداث يمر أمام سعيد وهو تائه بنظراته في مياه المحيط، تحضره صورة والدته التي اضطرت لمد يدها طلبا لصدقة المحسنين، وصورة مالك المنزل يهددهم بالإفراغ إذا لم يدفعوا مستحقات الإيجار المتراكمة، ويتنهد بقوة وهو يتذكر خوضه مغامرة العبور بعد أن اقترض من كل الذين يعرفونه وباع دراجته النارية وثلاجة البيت؛ كانت مقامرته الأخيرة للعبور نحو “أرض الخلاص”، لمساعدة والدته وإخوته أو الموت، أصدر زفرة عميقة سمعها رفاقه وهو يعرف ألا حول ولا قوة له إلا أن ينتظر… طابور طويل من المهاجرين، مغاربة وجزائريين ومن دول إفريقية أخرى.

يقف سعيد متكئا على كتف رفيقه يوسف، يتجول بنظراته في وجوه الواقفين والواقفات، ويحلق بخياله عائدا إلى المغرب؛ لم يسبق له أن استلم مساعدة من المحسنين، ولا حتى قفة المواد الغذائية التي كانت توزعها السلطات في بلدته أثناء الحجر الصحي، يمعن النظر في وجوه تنتظر دورها لاستلام وجبة اليوم التي توزعها منظمة كاريطاس التابعة للكنيسة، عيناه جاحظتان تنظران لمن حوله، كما يسترق النظر بين الفينة والأخرى لحارسة شقراء بلباس الأمن تُشرف على تنظيم طابور الجائعين، يسمع بين الفينة والأخرى صراخ بعض المهاجرين احتجاجا على محاولة اختراق صف المنتظرين، بعضها تتحول لعراك بالأيدي ينتهي بطرد المتعاركين من الصف.

.

يشعر باختناق ورغبة في استنشاق المزيد من الهواء، وينتظر.

.

خيم الظلام على الجزيرة، مع هدير البحر وصوت أمواجه تتلاطم على الشاطئ.

استعجل يوسف صديقه سعيد العودة إلى خيمتهما، نهض متثاقلا وردّ عليه: ـ إلى متى، إلى متى سنظل في هذا السجن؟ كيف أصبحت هذه الجزيرة الخلابة سجنا نقبع فيه إلى ما لا نهاية، أهذه هي الجنة التي كنا نحلمُ بها؟ أهؤلاء من كنا نقول عنهم إنهم حماة الإنسان؟ هل نحن في اليقظة أم هو كابوس؟ البارحة توجهت إلى مخفر الشرطة، استجديهم طردي إلى المغرب، تصور أنهم لم يعبئوا بي، هددني شرطي الاستقبال بالسجن إن لم أغادر المخفر، وحينها ضحكت بجنون، واستسلمت مغادرا لا أعرف وجهتي.

.

مضى وقت طويل دون أن أعرف أين أنا وإلى أين أمشي، انتبهت لنظرات من بعض المارة من سكان هذه الجزيرة لا تخلو من نفور، سمعت سيدة شقراء تناديني “موروس، أولاد القحبة، عودوا إلى بلدكم الوسخ”.

.

وكلمات أخرى لم أفهمها، أحسست بالدماء تغلي في عروقي، والعرق يتصبب من جبيني، ولم أتذكر بعد ذلك إلا وأنا أمشي هائما على رمال هذا الشاطئ غير عابئ بنظرات المارة واستغرابهم لحالتي وضحكي الهستيري.

.

اغرورقت عيون يوسف بالدموع وهو يتابع حديث رفيقه سعيد، استجدى صديقه ليغادرا نحو خيمتهما، استسلم هو الآخر وتمدّد إلى جانب رفيقه على رمال شاطئ الباباغايو الذهبية، لا خيار له إلاّ أن ينتظر.

.

ظل سعيد يراقب نجوم السماء وهو ممدد على رمل الشاطئ، وعادت به الذاكرة إلى خبر لم يعبأ به حينها، خبر مهاجرين أفارقة يحتجون على اقتناصهم من غابات شمال المغرب وطردهم إلى الصحراء، إلى المجهول، تذكر حينها تبريرات زبائنه وجيرانه بأن الأولوية للمغاربة قبل أن نستضيف جوعى إفريقيا، تذكر صراخ مهاجرة إفريقية مسيحية حامل تستجدي رحمة المسلمين وتنتظر.

.

الأحداث والشخصيات حقيقية من تقرير صدر في جريدة إلباييس الإسبانية يوم الإثنين 25 يناير 2021.

السرد وتسلسل الأحداث من وحي خيال الكاتب.

المغرب      |      المصدر: هسبرس    (منذ: 3 سنوات | 71 قراءة)
.