خطورة افتعال الصراع الثقافي والحضاري بين الأمم والشعوب

يقف العالم مجددا أمام امتحان حرية الرأي والتعبير، في نقاش دولي ساخن، بين مؤيد للإساءة إلى الأديان باعتبارها في إطار حرية الرأي، وبين مناهض لهذا الفعل.

جاء إثر الجريمة التي ارتكبها الشاب المولود في موسكو من أصول شيشانية، إذ قام بقطع رأس مدرس فرنسي عرض رسوما كاريكاتورية للنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- في إطار نقاش حول حرية التعبير.

وكانت الرسوم قد نشرت سابقا في مجلة "شارلي إيبدو" الأسبوعية الساخرة، التي تعرضت كذلك لهجوم في يناير 2015، تسبب في مقتل طاقم تحرير المجلة، وجر معه صدمة ثقافية في العالم كله، وحوارا لا ينتهي حول الإساءة إلى الدين، وإذا ما كانت تعد جزءا من حرية التعبير.

حرية تولد الكراهية الفوضى التي أثارتها الحادثة، وصلت إلى حد الدعوة إلى المقاطعة الاقتصادية، وأثارت ردود فعل دولية، أهمها تصريح مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السعودية الثلاثاء، بأن "المملكة ترفض أي محاولة للربط بين الإسلام والإرهاب، وتستنكر الرسوم المسيئة إلى نبي الهدى ورسول السلام محمد بن عبدالله -صلى الله عليه وسلم- أو أي من الرسل، عليهم السلام".

وأضافت "الخارجية" أن "المملكة تدين كل عمل إرهابي أيا كان مرتكبه، وتدعو إلى أن تكون الحرية الفكرية والثقافية منارة تشع بالاحترام والتسامح والسلام وتنبذ كل الممارسات والأعمال التي تولد الكراهية والعنف والتطرف، وتمس بقيم التعايش المشترك والاحترام المتبادل بين شعوب العالم".

الحاجة إلى التشريع رغم الجريمة الشنيعة، إلا أن الرد الفرنسي كان حادا أيضا، تمثل في طرد مئات الأجانب المقيمين هناك، وحل جمعية لمناهضة الإسلاموفوبيا في فرنسا، ودهم أكثر من 50 جمعية ومنظمة إسلامية، ونتج عن هذه الفوضى هجوم تعرضت له امرأتان محجبتان قرب برج إيفل، وتكسير نوافد مسجد في بودرو، وضرب تونسي على متن طائرة فرنسية، وسبق هذه الأفعال تصريح مثير للجدل للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أعلن فيه تبني الرسوم، وخوضه معركة من أجل الحرية.

القانون الفرنسي يمنع التحريض على الكراهية العنصرية أو الدينية، لكنه يسمح بازدراء الأديان، بعيد إلغائه قانون عام 1881 نهائيا حول جريمة ازدراء الأديان، لتظهر الحاجة الآن إلى إقرار قانون جديد للمعاقبة على ازدراء الأديان، في ظل الأزمة التي تعيشها فرنسا.

ولا تبدو هذه بالمهمة الصعبة، ففرنسا نجحت خلال الأعوام الماضية في تشريع قوانين ضد الإساءة إلى بعض الأديان والأقليات، مثل التشريعات لتجريم معاداة السامية، ومعاداة اليهود، وطلبت فرنسا من "تويتر" تجريم التغريدات المعادية لليهود، والإبلاغ عن هوية المغردين، إلى جانب قوانين ضد الإساءة إلى العرقيات، وقانون تجريم إنكار الهولوكوست، والقانون الذي تم تمريره لتجريم إنكار المذبحة الأرمينية، وقوانين أخرى تعاقب بالسجن والغرامة المسيء إلى العَلم أو النشيد الوطني.

معضلة قانونية تصف الأوساط الثقافية والسياسية القوانين الفرنسية بازدواجية المعايير، ولا سيما أن كثيرا من الحوادث العرقية أو الدينية التي تمت خلال الأعوام الماضية أدى في محصلته إلى محاسبة فاعليه ومثولهم أمام القانون، لكنها قوانين غير مفعلة إن تناولت الدين الإسلامي، داعين إلى إيقاف هذه الانتقائية في تنفيذ القوانين، وتنفيذ نصوص المادتين 18 و19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وينص على أن "لكل شخص حقا في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في إظهار دينه أو معتقده"، فيما نصت الأخيرة على أن "لكل شخص حق التمتع بحرية الرأي والتعبير"، ما يعني أن الإساءة إلى الدين والتمييز العرقي والديني هي انتهاك لحقوقه.

وبالمثل تحدثت أيضا عشرات القوانين الدولية، ومنها المادة 20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، التي نصت فقرتها الثانية على أن "تحظر بالقانون أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف".

أما قانونيا، فتحدث قانونيون في حسابات ومقالات صحافية حول صعوبة تجريم الإساءة إلى الأديان والعقاب عليها، فالدين لا يملك مشاعر أو حقوقا وواجبات في نظر القانون، كونه يسيء إلى شيء معنوي، أو أشخاص ماتوا قبل آلاف الأعوام، ولا يوجد من يستطيع أن يدعي تضرره شخصيا، لذا تعد جريمة غير متكاملة الأركان، وإن تم ذلك، فإن القانون لم يحدد أيضا ماذا يعني بالإساءة أو ازدراء الدين.

مقابلة الإساءة بالإساءة موقف رابطة العالم الإسلامي جاء عقلانيا، مستشرفا المستقبل في حال تم قبول الإساءة إلى الأديان، ومقابلة الإساءة بمثلها، إذ تناول أساليب الإساءة لأتباع الأديان، وكذلك الرموز الدينية، مؤكدا أن الإسلام ينهى عن ذلك، كما أن علماء المسلمين ذكروا أن مقابلة الإساءة بالإساءة تدخل في هذا النهي، إذ تغري المسيء بمزيد دون طائل ولا نهاية.

وأكدت الرابطة، في بيان لها، أن المبدأ الحقوقي لحرية التعبير لا بد أن يؤطر بالقيم الإنسانية التي تقوم على احترام مشاعر الآخرين، وأن حرية الرأي متى خرجت عن تلك القيم فإنها تسيء إلى المعنى الأخلاقي للحريات، كما تسيء إلى مقاصد التشريعات الدستورية والقانونية التي أكدت ضمان حرية إبداء الرأي بأي أسلوب مشروع، ولم تقصد من ذلك إثارة الكراهية والعنصرية بذريعة حرية الرأي، ولا افتعال الصراع الثقافي والحضاري بين الأمم والشعوب.

وعلق الدكتور محمد بن عبدالكريم العيسى أمين عام الرابطة، رئيس هيئة علماء المسلمين، بقوله "هذه التصرفات محسوبة على أصحابها، ولا تتحملها الشعوب التي تربطها ببعض صلات المحبة والاحترام"، مضيفا "الإساءة إلى الرموز الدينية الإسلامية تعني الإساءة إلى مشاعر أكثر من مليار و800 مليون مسلم، والإسلام في جميع الأحوال لن يكون في موقف مقابلة الإساءة بالإساءة، لكنه يوضح الحقيقة لمن يجهلها، كما أنه في هذا السياق يندد بأي أسلوب من أساليب التصعيد من أي طرف، ويعد ذلك إساءة إلى القيم الدينية التي جاءت رحمة للعالمين ومتممة لمكارم الأخلاق، فضلا عن كون ذلك إساءة إلى القيم الدستورية للدول المتحضرة، التي أوضح شُراح دساتيرها أنها جاءت بالقيم الإنسانية، ومن ذلك المعنى الأخلاقي الكبير للحريات المشروعة المشتمل على مفاهيم الاحترام وتعزيز المحبة بين الجميع".

الحديث عن الإساءة إلى الأديان وعلاقته بحرية التعبير يطول، ودخل نفقا مظلما، ولا سيما وأن منظمة التعاون الإسلامي حاولت - ولا تزال - فرض حظر على ازدراء الأديان حول العالم، دون أن تنجح في إقراره عالميا، فهل تشهد الأيام المقبلة إجماعا دوليا للحيلولة دون الإساءة إلى أي معتقد أو دين، وإثارة الفوضى والعنف؟

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 3 سنوات | 22 قراءة)
.