مخاض المخلوقات المأزومة في رواية: مذكرات دي /بقلم عبدالجبار خضير عباس

.

إذاً كانت حياتهم غناء مترعة بأنواع الفواكه من تين وعنب وتفاح…، وتموج أرضهم بالخضرة…، والأنهار تفيض بتنوع أسماكها، والطيور بمختلف أشكالها، والأزهار بجمالها على الأرض وفي الأهوار حيث الزنابق بأصنافها والماشية التي تكتظ بها أرض السواد لذلك (العراقيون يتشبثون بحب حياتهم الغنية التي تشبه جنة عدن، الأمر الذي يجعلهم يحزنون حزناً شديداً على موتاهم الذين سيفتقدون هذه المتعة والجمال… ولكن العتبات أو الكواشف لا تشمل ثيمات الرواية أجمعها فضلاً عن أن الرواية تزدحم بالرؤى الفكرية والتساؤلات الفلسفية المباشرة أو المضمرة، ولاسيما ما يتعلق منها بما هو وجودي أو إيديولوجي، و التي كانت قد أثرت بمصائر مخلوقات المؤلف التي تعبر عن مجمل شرائح المجتمع العراقي، وعبرَ مستويات متعددة من السرد، تبدأ الرواية بتوظيف (مجمع الآلهة) التي تشكل زهاء ثمانين صفحة من مساحة الرواية، وهي تمثل أحد منافذ دي عند الهروب من ضغط التوتر، حيث الذوبان في سحر القصص التي تظهر صراع الآلهة القديمة والمخلقة المعبرة عن نسخ الأسلاف المعدلة على وفق قناعات وإرادة دي، التي تشكل في ثقلها المعادل لسرد الراوي، فعبر النقل والانزياح عن نص متداخل بوساطة التلاعب بالأسماء… أو الإبقاء على أسماء الآلهة والملوك كما هي آركولوجياً، فتارة نحن إزاء النص الأصلي، وتارة أخرى نشعر أمام نص اجتاحه الانزياح في محتواه وأخرجه عن سكة النص المؤسس التاريخي، فنفخ فيه حياة جديدة، واخضعه عن طريق مخيلة (ديالى) لاشتراطاتها، بالتحكم في سلوك هذه الآلهة والأطياف ونقل شحنات العواطف والانفعالات من غضب، وفرح، وغيرة، وشر، هذا السياق الأسلوبي الذي اعتمده المؤلف منح الألواح السبعة تفسيرات جديدة معاصرة، أظهر تكيفها مع الزمن الراهن، وفي الوقت نفسه يتيح الفرصة لعقد المقارنات بين الإيديولوجيات الدينية.

إضافة إلى إيهام القارئ المعتمد على القراءة الأفقية (الخطية) بأنه يتابع نسيجياً طبيعياً للنص، يستمتع بقراءته عن طريق سحر الحكايات والصراع بين الأطراف التي تشكل محتوى البنية، أما في القراءة العمودية، فتناصات مجمع الآلهة خاضعة لقراءات وتأويلات متعددة، ترتبط بمستويات الوعي والثقافة والانحياز الإيديولوجي، وتفجير الأسئلة بشأن المضمر من الأنساق الاجتماعية التي تضغط باتجاه تنميط السلوك الفردي على وفق مهيمنات السلوك الجماعي الخاضع للمؤثرات الدينية والإيديولوجية.

السارد العليم المهيمن لا يترك سوى المساحة المخصصة للعتبات والآنسة دي عند كتابة مذكراتها، حيث يتغلغل في أعماق مشاعر دي ويقرأ خيالاتها وأحلامها، وحلمها الواعي المسيطر عليه، إلا أنه ينفصل عنها لتتحرر منه واللجوء نحو قراءة المحيط الاجتماعي والتاريخي على وفق قراءاتها في أثناء كتابة مذكراتها …أما باقي شخصيات المستوى الثالث من السرد، فهو ينظر إليها من الخلف، يتقمص دور الوسيط ليعبر عن أصواتها المختلفة والمتناقضة والمأزومة والمتفاوتة في نوع عصابها… ومن صفحتها الأولى، تحيلنا الرواية إلى تاريخ العراق القديم وأسطورة الألواح السبعة وبدء الخليقة ورموز تلك الحقب التاريخية والدينية والسياسية….

  الثنائيات الضدية الثنائيات الضدية تظهر حالة الصراع المستمرة، في الحياة وهي أحد أهم الأسباب في ديمومة الحياة وتناميها وتطورها، وفي الديالكتيك الماركسي تشكل وحدة صراع الأضداد.

أحد قوانين الديالكتيك الثلاثة التي تعني أن الظاهرة ونقيضها يتصارعان في ذات الوحدة أي كل ظاهرة تحمل نقيضها أو ضدها معاً.

وفي الرواية الثنائية الضدية التي وظفها السعداوي ساهمت في تعميق الدلالة، فضلاً عن خلق منطقة جذب تشد القارئ نحو النص، ويلاحظ ذلك عبر صراع دي مع الآخر لتحقيق ذاتها التي بنتها بوساطة صراعها مع ضدها الآخر، إذ تؤسسُ الحرية بحضور الضد، وصراع يوسف مع أمة العجوز الذي مثل صراع القديم مع الجديد فـ”إن ثنائية نمط معيشة مجتمع ما تؤثر في حياتهم اليومية، وتمتد إلى جميع مواقفهم النفسية، وتنظيمهم الاجتماعي، وأفكارهم الغيبية، لذلك تناول شتراوس أشكال الثنائية وتجلياتها في البنيات الاجتماعية عن طريق أشكال متعددة من الثنائيات متحدة المركز (تقابلات) بين ذكر/أنثى، عزوبة/زوج، مقدس/مدنس…يعاينُ النسق من جهة كونه عملية معقدة ثنائية…”.

لذلك استثمر السعداوي هذه التقنية ليعبئ النص بطاقة شحن إضافية في شقها الجمالي والدلالي وتأسيساً على ذلك يظهر السعداوي التضادات أو الاختلافات الثنائية في النص منذ البداية إذ يقابل ديفالون أو يخالفه الـ (دامستا) الذي يبدأ بحرف دال أيضاً، لكنه منحوت من كلمة دامس التي تحيلنا إلى صفة للظلام، الأمر الذي يحيلنا لتأويلات ثنائية متضادة يقابل فيها الخير/الشر، والعدل/الظلم، ويستمر الصراع بين الثنائيات المأزومة المتضادة في الرواية، نختار هنا بعضاً من أهمها وعلى النحو الآتي: قلعة الرجال الصيادين وجمعية الفتيات المحاربات ومن أهم هذه الثنائيات المتضادة: قلعة الرجال الصيادين مجموعة من خمسة أشخاص تشبهوا بالصيادين يحملون رماحهم ليصيدوا النساء، واتخذوا من نادي الصيد قلعة للصيد إذ يحملون رماحهم ويجعلون من النساء طرائد لهم يفترسونها، هذه هي عقيدة القلعة أو نادي الرجال الصيّادين…كان غسان عودة الصياد الأبرز في المجموعة متفاخراً بمغامراته التي لا يعرف أحد مدى صدقها أو كمية التلفيق و”البهارات” التي يضيفها إلى القصة حتى تغدو أجمل وأكثر إثارة…ص164 عند جلساتهم التي تهتم بسرد مغامراتهم، لكن في النهاية نكتشف أن مغامراتهم لا تعدوا سوى ادعاءات دون كيشوتية، وأن كبيرهم غسان عودة فشل في اقتناص قبلة كانت متاحة له من صديقته، لكنه كان متردداً وسلبياً فيما كانت صديقته تنتظر مبادرته الخائبة، أعترف بذلك ليوسف، إن صديقته التي هاجرت ذكرت له تلك المناسبة وكيف كانت بحاجة لتقبيله، فيما الصياد سجاد الذي كان قد أحب طالبة كلية يعمد لتوصيلها لبيتها، استطاعت أم الطالبة أن تصيده هي وتفترسه، فخسر حبيبته وهرب من أمها…إذ “كانت الأم أقرب إلى عقيدة الصيادين منه” فنالت منه كطريدة.

عموماً كان “كل واحدٍ يعاني من دون شك، من أرق مشاكلٍ عدّة زاد من ضغطها موضوع الحرب مع داعش والأزمة المالية الخانقة في البلد وركود السوق”، ص175 إضافة إلى أزمتهم الرئيسة (الكبت الجنسي) التي لا يبوحون بها إلا أنها مقموعة في خزان اللاوعي.

  جمعية الفتيات المحاربات  والاسم يعني ثمة من تحاربه هذه الجمعية، وفي السياق الدلالي للرواية هم قلعة الرجال الصيادين، الذين يتوحدون مع الجمعية في وحدة التضاد، وفي المفهوم العام محاربة النظرة الدونية والاقصائية الذكورية التي يمارسها الرجال عبر ممارسة العنف، والإساءات، والحرمان، والتهميش والوصاية التي يمارسها الرجال على النساء…هذا النضال يأتي عبر منظمة اجتماعية تعمل فيها آيات، ووسن، وتمارا، ودي، ورجاء (مزكين)هذه الشخصيات الأنثوية هي الأخرى لكل منها أزمتها الخاصة، تجد في المنظمة الفرصة للتعبير عن ذاتها، وتحقيق انتصار حتى لو كان رمزياً على عالم الذكورة، ولا تختلف آيات رئيسة الجمعية عن غسان عودة، فقد كانت نفعية برغماتية انتهازية استطاعت أن تعقد علاقات مع مجموعة من السياسيين وتظهر معهم في اجتماعات (دعم المرأة) وتبرر تلك العلاقة بأنها توفر لها الحماية من التنظيمات المتطرفة، لكن مثلما كان للصيادين مواقفهم الإيجابية في المشاركة بالدفاع ضد داعش على الرغم من أزماتهم الفردية الاجتماعية والسيكولوجية، كذلك هو حال المحاربات…لكن كلاهما كانا يعانيان من خلل مركزي هو الكبت الجنسي الذي يشكل العامل المشترك لأزماتهم، التي يعيشونها، فالأنساق الاجتماعية، من عرف وتقاليد وتابوات صارمة، وضغط المؤسسات الدينية التي يواجهها الإنسان في المجتمعات المغلقة، تجعله يعاني من جوع عاطفي واضطراب بالأحاسيس والمشاعر، فضلاً عن فقدانه لإشباع حاجاته الجنسية هذه الأمور بمجملها تشكل ما يطلق عليه وفق المصطلح النفسي (الكبت الجنسي) إذ إنه يكبت مشاعره، ويتخيل علاقات وهمية متخيلة، لكنه في قرارة نفسه يشعر بالخجل أو الندم أو الذنب، عموماً النتيجة واحدة هي خلق شخصيات مأزومة غير سوية…مع اختلاف نوع المشكلات وتأثيرها على الرجال والنساء.

  صراع مَمَه ضد آمون كاني في بداية التاريخ قبل آلاف السنين، كانت السيادة للمرأة الأم وبما يسمى عصر المجتمع الأمومي، إذ كانت المرأة هي السيدة والحاكمة، وهي من تورث أبناءها ولها عدة أزواج، ويسمى الوليد باسمها، وكان دور الرجل ينحصر بالصيد، وكانت حرة في طرد الزوج وخروجه خالي الوفاض من المنزل… ولكن في المجتمع الزراعي حدث الانقلاب نحو المجتمع الأبوي في عصر الزراعة، وهذه المرحلة تمثلها أسطورة قتل مردوخ تيامات.

“إن الأسطورة المسماة إينوما إيليش هي بالواقع أسطورة معبرة عن رفعة وسمو مردوخ ومعبرة عن مسكه لزمام الأمور ولكل الفعاليات والنشاطات الإلهية للآلهة الأخرى: ولهذا فقد ميزوه واعطوه النسب في كونه خالق العالم”.

  في عالمها الافتراضي المخلق عن طريق أحلام اليقظة دي أرادت الانتصار لـ (ممه) التي تمثل (تيامات) على (آمون كاني) الذي كان يمثل (مردوخ)… من كان يحقر ممه ويجلسها على كرسي واطئ بلا مساند، إذ إنها كانت في صراع دائم معه حتى استطاعت أن تخلق طيفاً أنثوياً لأول مرة، أطلقت عليه اسم دي وبمواصفات مميزة، وبذلك حققت جولة انتصار جندرية عليه على وفق رؤية ديالى.

    أزمة يوسف مع أمه  تعرض يوسف لهيمنة أمه عليه حتى أنها مسحت ذاته، وجعلت منه طفلاً توقف نموه بعد مقتل زوجها في الحرب العراقية الإيرانية، فوجدت فيه تعويضاً عن الزوج المفقود، والابن الذي تتكئ عليه، لهذا ظل أسير مدارها على الرغم من تنامي جسده وغزارة شعر لحيته…كان لا يسمي أمه باسمها أبداً…إنها الأم فقط، كأنها كيان مقدس، وبما أن أمه حبسته بما يكفي فيما ازدادت معرفته وتعمق وعيه لاسيما بعد علاقة الحب التي جمعته مع ديالى، فبدأ يعيش حالة الصراع مع سلطة أمه التي تحاول تسييره بحسب مشيئتها، ورغباته وشعوره بتحقيق ذاته وتحرره بالانفلات من مدار أمه الذي كلفه الكثير من المعاناة بعد ارتباطه بديالى صاحبة الشخصية القوية المتصالحة مع ذاتها، وبالتدريج استجابت أمه لرغباته  وخضوعها لإرادته.

  وتستمر هذه التقنية الأسلوبية في الرواية، حيث هناك صراع عبد الواحد ضد خديجة، ودي ضد نينوى، وتمارا ضد أسامة، وطيرة ضد مزكين،… كلٌ منهم يحمل أزمته معه، بما يوازيها من عصاب… بمثل هذه الثنائيات المتضادة عزز الكاتب تماسك الحبكة الرئيسة بعد رفدها بهذه البنيات الفرعية التي وظفها تقنياً بوصفها روافداً تذوب في بوتقة الحبكة الرئيسة وصراعاتها، فكثف دلالة ومعنى هذه الثيمات في الرواية حتى تشابكت خطوط الرواية الرئيسة في الفصل الأخير، حين تكاملت الحبكات الفرعية مع الحبكة الرئيسة.

  البنية الزمنية: نحن إزاء ثلاث بنى زمنية رئيسة في الرواية: الأولى، زمن التأسيس الأول لمجمع الآلهة زمن العراق القديم الذي خرجت من زقورته السومرية أول الأديان، وأخرى واقعية تشير لمدة زمنية تبدأ من ثمانينيات القرن المنصرم حتى الآن.

وثمة بنية زمنية منطقية زمنها طبيعي موثقة باليوم والشهر والسنة، والتي تندرج ضمن السرد المتسلسل، تربطنا بالزمن الذي نعيشه.

إذاً هناك زمن مجمع الآلهة المرتبط بالسرود اللاهوتية لبلاد النهرين، والزمن المعاصر المتمثل بالعقود الأربعة الأخيرة.

وثمة مكانان لمسرح الأحداث، مؤطرة في بنية واحدة العراق القديم/العراق المعاصر، مركز البنية بلاد النهرين، تجانست البنية بوصفها وحدة متماسكة، إذ إن دي أعادت انتاج محتوى البنية في مجمع الآلهة أي جعلت منها حالة مؤقتة.

ما يعني أن العلاقة عند السعداوي بين الشكل والمضمون ليست اعتباطية، بل مدروسة بعناية غاية في الدقة…   المكان وفضاؤه الزماني: نجد ثمة منْ يعيش في ميسان ونينوى وديالى أو الأعظمية….

وهو متصالح مع فضائه الزماني الذي يشكل عمقه الحضاري وذاكرته المعرفية والعلمية والثقافية والاجتماعية….

، كما هو الحال الذي تمثله دي وعبد الواحد ومن يصطف معهم في الرؤية، وفي المكان ذاته يعيش القسم الآخر الذي أقدامه على خريطة المكان ورأسه مدفون في مقابر قريش ورمال يثرب، لأنهم يرون تاريخ العراق القديم يمثل الملوك الكفرة وعبادة الأوثان، ويهمشون أو يلغون كل ما يتعلق به، يعيشون في ذاكرة غريبة عن المكان انفصلت قبل نحو 1400عام .

مستويات السرد والأسلوب كتبت الرواية بمستويات لغوية متعددة تارة تكون بلغة شعرية بالغة التكثيف وتارة أخرى تحيلك لتأملات فلسفية أو وجودية، لم تُؤثر على بنيتها السردية أو الحكائية.

إذ إنه يتحكم بآلية تنامي حركة السرد وتطوره عبر تعدد الأصوات ومنح الشخصيات حرية التعبير عن الهوية الاجتماعية والانحياز الإيديولوجي والديني لإيهام القارئ بحقيقة ما يحدث من تنامي الأحداث وصيرورتها في الرواية.

عبر أساليب سردية ثلاثة فعند تناوله حكايات مجمع الآلهة، استعمل أسلوب السرد المنقطع في عرضه لحكايات مجمع الآلهة أما السرد المركزي الذي يشكل نصف الرواية فقد وظف أسلوب السرد المتناوب، وخص مذكرات دي أسلوب السرد المتسلسل، إذ تناول الأحداث في مذكراتها على وفق تسلسلها الزمني الواقعي والمنطقي، وبمعالجات لغوية مختلفة بحسب الحدث والموقف، وبما يختلف عند بعض الروائيين الذين يستثمر لغة الشعر بالتأثير العاطفي على المتلقي، يقول الروائي واسيني الأعرج: إن أحلام مستغانمي تُقول الفلاح والدكتور والعامل شعراً ولها جمهورها…نجد ثمة حرصاً شديداً على لغة الشخصية بما يناسب وضعها الاجتماعي، وبيئتها ومستواها التعليمي والثقافي، إذ يرسم بدقة محسوبة خط صيرورة الشخصيات والتحولات التي تساهم بالتغيير الفكري الذي يطرأ على الشخصيات، والظروف التي نحتت هذه الشخصيات عبر أحداث تتغير بشكل منطقي وواقعي ليوفر القناعة لدى المتلقي، ويمكن ملاحظة ذلك عن طريق مراقبة الاستراتيجية التي رسمت لشخصية (دي) وتحولها من متقوقعة وانهزامية إلى قوة رفض واعية، على وفق مفهوم الكيجيتو الديكارتي، وبقناعات راسخة تجابه الآخرين، وتفرض رؤاها على الآخر.

وكيف أثرت الأحداث على شخصية عبد الواحد الهشة، وصلابة شخصية خديجة وجمودها العقائدي الذي انسحب على من تأثر بها وإدامته عبر دلالة أسماء الأحفاد…                                     خطاب الرواية تتصارع شخصيات الرواية، ابتداءً من تحقيق أمانٍ بسيطة مثل الحصول على حبيبة في مجتمع لا يرى في ذلك أثماً عظيماً، إلى شباب يبغون الخلاص من تابوات وقيود وقوانين مركزية، وأعراف وقيم تتعارض مع معطيات العصر، كل من هؤلاء يحاول تجاوز أزمته، وتحقيق رغباته التي تصطدم بآخرين يرون كل تجديد وتغيير يشكل تهديداً ومؤامرة تستهدف وجودهم وهويتهم الدينية أو يندرج في خانة الفسق والفجور … معوقات تاريخية شائكة ومعقدة، وما يحدث من تحولات اجتماعية وسياسية لا يكفي لإنتاج وعي كالذي حدث في المجتمع الأوروبي إذ مر باشتراطات تاريخية، وتحولات في وسائل الإنتاج، رافقها تطور فكري وسياسي وحركة تنوير تزامنت معه، أو هي من تمظهرات تطوره…في حين نحن نعيش الآن في مجتمع أشبه بالطبيعي، لكن بأدوات محدثة من مكائن وآلات مستوردة، لكن بفكر وسلوك المجتمع الطبيعي….

في هذا المناخ ثمة نزوع وتبلور رؤى وأفكار نحو تغيير الواقع والاصطفاف الحضاري مع ما يحدث من ثورة في وسائل الاتصال وتسارع تدفق المعلومات، ما قرب المسافات، وجعل من المعلومة متاحة ومتيسرة للجميع، الأمر الذي ساهم في تقليص مساحة السقف لتشكل بنية وعي ثقافية، واجتماعية، وسياسية…تهدف لاسترداد هوية الأمة العراقية عبر الارتباط بعمقها الحضاري الذي انقطع منذ 1400عام بخلاف جميع الأمم المغلوبة (المفتوحة).

بدلالة استهلال الرواية بتناصات مجمع الآلهة، ومضامين الألواح السبعة البابلية.

يقول باختين: “إن الرواية جزء من ثقافة مجتمع.

والثقافة مثل الرواية، مكونة من خطابات تعيها الذاكرة الجماعية.

وعلى كل واحد أن يحدد موقعه وموقفه من تلك الخطابات.

وهذا ما يفسر حوارية الثقافة وحوارية الرواية القائمة على تنوع الملفوظات واللغات والعلامات” فالفرد لا يعبر عن رؤية ولغة متفردة، بل هو يمثل ثقافة وبيئة مجتمعية لها مصالحها وقناعاتها الفكرية والاجتماعية، والتي تشكل جزءاً من صراع الفرد/الجماعة مع المناوئين أو الأضداد يعبرون عن مصالحهم بلغة وأسلوب يمثل شريحتهم وطبقتهم في إطارها التاريخي المحدد…فمثلاً ديدي تعبر عن صوت شريحة اجتماعية، وليس صوتاً متفرداً لا شبيه له.

بل تعبر عن رؤية اجتماعية جديدة تتنامى اتساعاً، وما تشي به الرواية هو بطء هذا التغير… فالسعداوي هو ابن بيئة ثقافية برصيدها المتراكم تاريخياً والمتفاعل حضارياً مع العالم المعاصر، هو ومن شاكله من المتصدين عن طريق الاشتغال بالرواية….

لذلك ما تتبدى من رؤى وأفكار إيديولوجية ولاهوتية وفلسفية…تأتي ضمنية أو متخفية في ثنايا النسيج السردي، قُدمت بحذر وبراعة، إذ إن كلاً من هوية الأصوات المختلفة طبقياً وعرقياً واجتماعياً عبرت الشخصيات عنها بلغة منسجمة مع الذات وشريحتها الاجتماعية وانحيازها الفكري، بيد أن السعداوي على الرغم من محاولته إظهار حياديته في نسيج السرد، لكنه يلمح بانحيازه لتمكين المرأة وإلغاء الفروق البيولوجية ورفض الثقافة الذكورية، كما هو الحال مع ممه ومزكين ودي التي كانت بطلة الرواية، فهي هنا تشكل دلالة إضافية لانتصار المرأة في قيادة الأحداث وما تحققه من انتصارات رمزية في الرواية حين استطاعت ممه أن تنتج طيفاً أُنثوياً.

والانتصارات الواقعية التي فرضتها عن طريق فرض إرادتها على عبد الواحد وعمتها ونينا وتغيير شخصية يوسف بانفلاته من عبودية أمه… هذه الأمور تتجلى عن طريق رؤية دي الليبرالية، ويسارية عبد الواحد، وعدمية غسان….

  السعداوي كان مترجماً صادقاً وحاذقاً للأحداث التي عاشها العراقيون في العقود الأربعة المنصرمة، فثمة سلسلة تراجعات حضارية فعلتها مخلوقات غرائبية، نقلت العراق إلى المجتمع الطبيعي (ما قبل الدولة)،…مقابل ذلك تبلورت أفكار شبابية تنتمي للغة العصر رافضة لهذا الواقع المتعارض مع منطق التاريخ واشتراطاته، فتصدت وقدمت التضحيات عبر تظاهرات شبابية عارمة حطمت مساحة كبيرة من جدار اليأس وفرضت حضورها… فأقنعنا الكاتب بأننا إزاء شخصيات واقعية، تتحدث بلغة منسجمة مع موقعها الاجتماعي ومتوافقة مع قراءتها لعالمها الذي تعيشه.

ونلاحظ أن الخطاب الروائي يظهر عبر صراع ثلاث شخصيات مع بيئتها الاجتماعية، هي: دي، وعبد الواحد، وغسان، واختلافها مع الآخرين بشأن وجودها، وتحقيقها لذاتها، وحريتها، ثم موقفها من الحياة والموت، رؤاها الفلسفية، والإيديولوجية، المؤثرات السيكولوجية التي أثرت على سلوكها، أثر البيئة والمجتمع والسلطة على هذه الشخصيات، هل تشعر هذه الشخصيات من معنى ما لوجودها أم تبحث عن معنى لوجودها؟ الصراع بين من يتمسك بقناعات فكرية قديمة من عادات وتقاليد وأعراف وقيم…والمختلف بقراءاته المتنوعة والمتعددة، مع الاختلاف بشأن الرؤية اللاهوتية، ابتداءً من مجمع الآلهة وانتهاءً بالسرديات الكبرى، والمشاكل التي تعانيها المرأة، وحراكها من أجل تمكينها لتحقيق مكاسب تشعرها بإنسانيتها والمساواة، ودورها بصنع القرار… فهذه الذوات الإنسانية بسيروراتها الاجتماعية تشكل لنا علامات مثقلة بالدلالة والمعنى، عبر واقع الرواية الافتراضي الذي هو استعارة عن حقيقة مجتمع بصراعاته وتحولاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية…الذي حتماً سيخضع لقوانين التاريخ وحتمية التغيير.

  دي في صيرورتها الاجتماعية رسم السعداوي استراتيجيته لشخصية (دي) بتأنٍ مدروس، حيث تتداخل مع شخصية عبد الواحد (والدها) فيبدأ من الصفحات الأولى حتى نهاية الرواية، برمي قصاصات عن الشخصية مبعثرة في طريق القارئ، عند تجميعها تتكشف خواص الشخصية، ابتداءً من الجانب البيولوجي حيث عوقها برِجْلَها اليمنى، وشكلها الخارجي المتواضع مقارنة بأختها نينا الأمر الذي أثر على مزاجها عبر تفاعلها الاجتماعي، فضلاً عن ما اكتسبته من خصوصية حين تتشكل أساسيات الوعي والسلوك والقيم والأخلاق والأعراف، فهي تأثرت بالخلل الجسماني، الذي انسحب على وضعها الاجتماعي فتقرأه عبر هذا العوق الذي أثر في بنائها النفسي لاسيما في أثناء طفولتها عن طريق الأسرة والمجتمع… إذ إنه في البدء كان يبث الإشارات عن تقوقع وسلبية الشخصية، وأن العلاقة بين الأختين لم تكن جيّدة في بادئ الأمر، إذ كانت نينا الجميلة لا تتورّع عن إهانة أختها غير الشقيقة في أية مناسبة تحصل، مستفيدة من ضعف ما في شخصية ديالى (دي) لتسديد لكماتٍ متتابعة، وكأنها تتدرب على كيس ملاكمة.

ص13 كانت ديالى تكتم مشاعرها السلبية مع نفسها، ولا ترد بأي شيء، وقد تلجأ في أحيان كثيرة لعلاجها السحري الذي يعيد التوازن إلى وضعها النفسي، البكاء بمرارة في غرفتها لوقتٍ طويل….

، ومنغلقة على نفسها تقضي أغلب أوقتها في غرفتها.

ص14فبدلاً عن البكاء والعزلة أخذت تحلق في عالم أحلام اليقظة فضلاً عن كتابة مذكراتها للتخفيف عن حالة التوتر التي تعتريها…ولكنها باستمرار كانت تغير واقعها بالتدريج عبر الركون إلى القراءة بنهم ومن دون كلل حتى أحدثت القراءة والحوار مع والدها انقلاباً في شخصيتها، إذ بدأت مراحل التنامي والتطور في شخصيتها تتسارع، وبخطوات متلاحقة حولت حالة الانكسار والتداعي إلى حالة أكثر إيجابية، جعلتها تقف على أرضية صلبة، ولكن بعد أن مرت بسلسلة صعبة من التعقيدات والمشاكل… ومع ذلك كانت تشعر بألم حقيقي من الإهانات التي تتمسك بها نينا منذ سنوات… أرادت أن تقول إنها كسرت شيئاً عميقاً في روحها، وخلفت جرحاً غائراً حين كانت تخبرها في طفولتهما أنهما ليستا أختين وأن أمها (قحبة).

  ص15 “أمك قحبة هربت مع عشيقها”.

ص30 تقول ديالى: لم أدقق كثيراً في حقيقة أن نينا كانت تتملق والدي كثيراً، وتعامل نفسها وكأنها طفلة، وكان هو يتجاوب معها في الأغلب، بينما أنا كنت أكثر هدوءاً وربما انغلاقاً…ص 31 وفي حوارها مع عمتها: ها أنت تؤكدين كل هذا اللغط المدمّر الذي خرب حياتي.

لقد بذلت جهداً هائلاً لإعادة ترميم نفسي الهشة خلال هذه السنوات ونسيان هذه الحكاية، فلماذا تحطمينني الآن يا عمتي، آه .

.

لماذا لا تموتين بسلام؟! ص34 فديالى نفسها كانت ساحة معركة ناعمة وخفية بين الأب (عبد الواحد) والعمة.

كانت الأخيرة ترى في أخيها شخصاً منطوياً صاحب أفكار غامضة مخرّبة، فهو لا يقيم وزناً للأعراف الاجتماعية ويهزأ من التقاليد.

وموقفه سلبي من الممارسة الدينية… وكانت خديجة حين تتحدث مع ديدي، تشعر بأنها تواجه نسخة أخرى من عبد الواحد.

الأمر الذي يثير الأسى في نفسها، وشعوراً بالهزيمة في معركتها الناعمة الطويلة مع أخيها… ص56 ويظهر النص أن الأب وابنته دي متطابقان في رؤيتهم للوجود وتقاطعهما مع الأعراف والقيم الاجتماعية.

ومع ذلك ترى العمة بأن ديدي بنت ذات سريرة نقيّة، على الرغم من أنها لا تبدو مهتمة بالعبادات والطقوس الدينية.

إلا أن الله يعرف مخلوقاته أكثر مما تعرف المخلوقات نفسها.

ص69 ” وفي ثيمة أخرى، لا ترى دي طائلاً من الدعاء.

وفي بدايات تبلور رؤاها الفكرية، كانت بحاجة لدفء روحي أو لموازنة بينما هو عقلاني وروحي، على نقيض والدها الذي يتبنى موقفاً عقلانياً شديد الوضوح، كانت “تشعر أكثر بأنها تخاف من هذا العالم العقلاني العاري شديد الإضاءة الذي يتحرك فيه والدها، وأن عمتها على مبالغاتها الغيبية، كانت تعطيها نوعاً من المهرب حتى وإن لم تصدق بكلامها”.

ص72 بعد تخّرجها من كلية الإدارة والاقتصاد قضت ديالى سنة قابعة في البيت، لا تفعل شيئاً سوى القراءة….

ص70، نلاحظ أن تكرار اهتمامها بالقراءة جاء ليبرر أو يمهد للمتلقي سبب حصولها على شحنة الوعي العالية التي أحدثت الفارق في سلوكها، عبر قراءتها الفكرية الناضجة والمتماسكة للأحداث التي تتعرض لها.

كان وجود والدي في الغالب شبحياً وناعماً.

ص240هنا تتوضح صورة الاختلاف بينها وبين والدها الذي ينحني لسطوة العرف والتقاليد في السلوك والفعل على الرغم من رفضه للتقاليد والعرف نظرياً…فعبد الواحد هذا كان موجوداً دائماً أشبه بشيء مسلم به وطبيعي، مثل أشجار حديقتنا العالية.

ص241 وثمة فرق بينها وبين والدها اليساري التقليدي الذي دجنته الحياة والمحتفظ بمبادئه النظرية والمهادن في سلوكه الاجتماعي، بيد أن ديدي على العكس من ذلك، نزعم أنها مثلت دور المثقفة العضوية الصلبة، فلا تجامل بشأن سلوكها وقناعاتها الفكرية… “كنت أهتف عصر اليوم مع آيات، ووسن، وتمارا مع آلاف المتظاهرين في ساحة التحرير ضد الفاسدين من الساسة.

تهدر حنجرتي (باسم الدين باكونا الحرامية) أشعر بأني أفي بدين أخلاقي تجاه هذا البلد…”.

ص243 كان مثلي لديه عزلته الخاصة…كرر والدي طلبه وكررت رفضي، وشعرت بأنه أحسّ أنني لن أتزحزح عن موقفي… ص329 هنا تنتقل إلى مرحلة امتلاك الخيارات والإرادة على تنفيذها من دون تردد ولا مجاملة ومع أقرب الناس إليها والدها.

وما يؤكد ذلك قولها: كانا يتوقّعان أن أذهب معهما إلا أنني رفضت.

كّرر والدي طلبه، وكررت رفضي، وشعرت بأنه أحسَ أنني لن أتزحزح عن موقفي… ص329 هنا تؤكد بأنها وصلت إلى مرحلة تحقيق الذات، وامتلاكها لحريتها، والإرادة والقدرة على تنفيذ ما تهدف إليه عبر ممكناتها…يرى ميشيل فوكو إن الذات تبنى بوساطة ضدها الآخر، إذ تؤسسُ الحرية بحضور الضد وهو القيد.

  فلسفة الموت وتأويل الوجود تُشَبْه دي قرار اتخاذ تحديد الموت بلعبة النرد، باختلاف مع ما تطرحه الديانات الكبرى ” تخيلت أن نرد الأقدار يوزّع المصائر بعبثٍ هائل على البشر وأن المهمّة الشاقة لهؤلاء البشر في ما بعد هي أن يعثروا على معنى ما لحياتهم.

يجمعون الأجزاء المتفرقة ويحاولون خلق نسيج لمعنى متماسكٍ ومفهوم.

وخلال ذلك قد تكون حركة بسيطة لا معنى لها لنرد السماوات كافية لأن أكون أنا هذه الطفلة ذات الثياب القذرة “.

ص147ومن أحلام يقظة دي عن لسان أنكيدو “أتعرف…؟ حينما جلست مع صاحبة الحانة سيدوري… لم تطلب مني أن أمجد الآلهة…كانت نصيحتها أن أتمتع بالطعام والنساء وأعمل الخير للآخرين”.

ص48 وتتفق مع وجهة النظر هذه إذ إنها ترى ضرورة التعامل مع فرصة الحياة بوصفها محدودة ونهائية.

وتؤكد هذه الرؤية ما يراه أودو حديم: “كان أودو حديم يفقد بالتدريج إيمانه بعمله ووجوده، ويحسد نندا شيرمانو على تصديقه التام بالأشياء المسماة (تافهة).

إن حياة هذا البشر الفاني ثمينة لأنها محدودة وغير قابلة للتكرار…”.

ص53 على الرغم من أن الكرة الأرضية لا تساوي شيئاً في الحسابات الفلكية، إذ إن هناك نجوماً تكبر الكرة الأرضية بمئات ملايين المرات، ومجرتنا بأجمعها لا تشكل سوى قطرة ماء أو ربما أقل في محيط.

وتأسيساً على ذلك تُشبهُ حياة الإنسان هذا الكائن العجائبي بأنه لا يعدو سوى حبة رمل في صحراء… نحيل هذا الرأي لديدي لأنها هي من أنتجت أحلام اليقظة بشخوصها وحكايتها… ” في نهاية المطاف إن ماتت أو بقيت حيّة فهذا لن يؤثر في شيءٍ على مجرى التاريخ الإنساني، إنها مجرد حبّة رملٍ صغيرة في طوفان صحراوي تتلاعب به الريح على مدار الوقت”.

ص 11 “رمية النرد العابثة التي تحدّد أقدار ومصائر البشر، كما تخيلتها دي، تقابلها هنا في السماوات عجلة الأقدار الكبرى، أو كما صار بعض الأطياف يسمّيها مؤخراً (روليت الأقدار) تشبيهاً باللعبة الشهيرة”.

ص148 ثم تظهر رؤيتها بخبايا الديانات السومرية والبابلية وحركة عمل آلهتها القديمة.

إنها تحاكي أزمة الإنسان في فهم الوجود، فما ينتج من حكايات عن طبيعة الآلهة هو بالضرورة يحاكي حياة البشر، لأنها بالتالي نتاج خياله البشري ” ليست المسألة أن هناك قلباً أو قطعة حجر، وإنما لأننا مصنوعون من الخيالات البشرية، فلا بدّ أن يكون فينا جزءٌ مما فيهم”.

ثم تعزز قناعاتها بأن” لا يوجد أي دليل أن هناك قوى خارج القوى البشرية أثرت في التاريخ البشري”.

ص81 هذه الإجابة تتصارع مع إجابات السرديات الكبرى التي تندرج في تفسير كينونة الوجود، ولكنها حتماً لا تقدم إجابة فلسفية نهائية جازمة قاطعة بشأن الوجود.

وانسجاماً مع قناعتها الفلسفية للوجود، تعقد مفاضلة ما بين وجود سرمدي لا نهائي، يدعو للضجر والملل وبين آخر قصير، لكنه يشعرك بمتعته لأنه غير متكرر “إن سنة واحدة، شهراً أو يوماً يعيشه هذا البشري تساوي ألفياتنا كلها، لأنها سنوات محدودة، والمحدود نادر ولا يقدر بثمن.

أما اللانهائي فهو لا نهائي في فقدان القيمة.

إنني لأعجب لهذه الحماسة بأن تنشئوا محاكمات وتدافعون عن قوانين مكتوبة في ألواح زجاجية، وتحرصون على بقاء سلطاتكم على الرغم من أنها قائمة على عالم هش يلوك نفسه في تكرارٍ مملّ”….

ص382 بوساطة هذه المعطيات لخريطة دي في الرواية يمكننا القول: إنها لا تخضع لسطوة عقل مركزي، أو مطلق أو تقاليد أو أعراف قديمة كل شيء لا يمر عندها إلا عبر النقد والتحليل، والتشكيك فيه حتى تصل إلى حقيقته…وبعد تبلور شخصيتها ونضوجها الفكري، آمنت بأن كل شيء في هذا الكون دائب الحركة والتغير على وفق قناعة ديالكتيكية ” فالتغيّر هو القاعدة الثابتة الوحيدة.

إن لم نتغير نحن فإن الحياة من حولنا تتغير ثم تجبرنا على الانسياق معها وتحملنا على أمواج تغيرها مرغمين”.

ص 298، وعلى الرغم من تأثرها بإيديولوجية والدها، لكنها تبنت رؤية فكرية مختلفة، فهي أقرب منها للفلسفة الوجودية، أو الليبرالية بوصفها فلسفة سياسية إذ حققت ذاتها، وتحررت في رؤاها ومواقفها الاجتماعية، وباتت غير خاضعة لقرارات الآخر، وثقافياً يمكن أن يطلق عليها صفة المثقف العضوي، حيث وجودها في التظاهرات، ومواقفها بالدفاع عن المرأة، ودورها الفاعل في منظمات المجتمع المدني.

  البعد الاجتماعي لشخصية عبد الواحد ولد عبد الكريم أبو عبد الواحد في العام 1958 هنا الاسم والتاريخ يحيلنا إلى المناخ اليساري الذي ساد الشارع العراقي في ذلك الزمن، هناك إشارات عديدة تشير إلى هويته اليسارية، منها أنه لا يقيم وزناً للأعراف الاجتماعية، ويهزأ من التقاليد.

وموقفه سلبي من الممارسة الدينية… “-لو كان هذا التمثال وثناً لدينٍ ما لكان مسكيناً، فهو يؤدي وظيفة ظاهرة للعيان، ويمكن تحديد العلاقة معه بوضوح.

فنحن بمغادرة مكان الوثن سننفصل عنه، ولكن ماذا عن أوثان الأفكار والتصورات؟! هناك أناسٌ يقتلون أنفسهم تعبداً لفكرة مسيطرة على رؤوسهم …إننا نسجن أنفسنا غالباً في معبد افتراضي فيه بضعة أوثانٍ تمثل أفكارنا عن أنفسنا، وهي أفكار غير مختبرة علمياً.

وإن تتقوى بالافتراضات والمشاعر ونوع التجارب التي نمر بها”.

ص222 عن طريق زجاجة الفودكا وإيحاءاتها الإيديولوجية-الأيقونة السيميائية-التي يخبئها في المكتبة وشت بفكره الماركسي “كانت الأسئلة تتلاحق في رأسي إلا أن والدي استدار إلى حافة المكتبة وأخرج قنينة فودكا وسكب لنفسه في القدح الورقي مرة أخرى.

ظل يشرب وهو ينظر إلى المكتبة.

ص38 فقراءة الكتب كانت صفة تلازم الشيوعيين العراقيين، ومن حوار مع ديدي يقول: “تضرعت لجميع الآلهة .

.

حتى لروح ماركس ونيتشه… حتى آلهة الرافدين القديمة كي أحصل على فرصة أخرى لرؤية ميسان…”.

ص230 ويبدو أن هذا اليساري قد تعرض لضغوط أفقدته مخالب إرادته، وبات يعيش حالة اغتراب واستلاب مزدوجة من قبل سلط خارجية وسلطة العائلة/المجتمع.

كان وجود والدي في الغالب شبحياً وناعماً، وهذا ربّما جعلني أفترض أنه ثابت الوجود.

ص240 فعبد الواحد هذا كان موجوداً دائماً أشبه بشيء مسلم به وطبيعي، مثل أشجار حديقتنا العالية، وطلوع النهار ومجيء الليل… ص241 فقد قارب الجنون وصار يعبد الأوثان حسب وصف ديالى لحدث السجود والمناجاة المثيرة التي شهدتها في صيف العام الماضي…ص298 كانت اعترافات عبد الواحد لوثنه (المرحب) مفيدة جداً لتوازنه النفسي، لولا أن نقصاً جوهرياً يشوبها، فهذا ليس إلهاً ولا بشراً وإنما أداة يقوم من خلالها بمنولوج شخصي يفصله شيئاً فشيئاً عن الواقع، وهذا الانفصال كلما تعزّز فإنه سيجعله في نظر الآخرين مجنوناً يفتقر للحس الواقعي بالأشياء.

ص 251 وفي سياق آخر “وجد نفسه ينساق بالحديث مع ابنته الصغرى، ويجيب عن أسئلتها من دون تحفظه المعتاد، حتى إذا وصلت إلى المنطقة الحسّاسة في ذاكرته كان يهدم تحفظه وينساق مع ابنته، ويجيب بكل صراحة وحرية.

شعر لاحقاً بأنه ينفّذ مع ديالى ما كان يفعله مع وثنه (المرحب)، غير أن ثرثرته واعترافاته هنا تعيده إلى العالم الواقعي ولا تفصله عنه كما كان يحدث مع تمثاله الجبسي”.

ص252 يتضح من ذلك أنه قد تعرض لضغوط محت ذاته وتحول لشبح ناعم أو مثل شجرة في الحديقة لا يتفاعل مع الآخرين وفقد حريته وسُلبت إرادته، وما علاقته مع وثنه أو تمثاله سوى محاولة للهروب من الضغط الهائل والمدمر الذي يعيشه، ولم يتحرر منه عكس ديدي التي حولت معاناتها إلى نصر في حين عبد الواحد غرق في مستنقع موقفه الانهزامي.

إذ إنه كان محتفظاً بمبادئه النظرية، ولكنه مهادن ومدجن في سلوكه الاجتماعي فعلاً… وهو ليس حالة فردية، بل يمثل شريحة باختلافات طفيفة، لكنها متشابه بخطوطها العامة.

  غسان عودة غسان شاب من خارج بغداد عدمي براغماتي ساخر، يقيم في شقة لوحده في الكرادة، يجلس أسبوعياً مع أصدقائه الأربعة على محرقة القصص الإيروتيكية ضمن مجموعة (قلعة الرجال الصيادين) يتدفؤون بنارها حتى وإن كان حطبها كاذباً، أو نصف كاذب…مأزوم من شدة حالة الكبت التي يعيشها، يخفف معاناته وتوتره منها بالثرثرة عن قلعة الصيادين واقتناص النساء، فهي وسيلته لمعالجة حدة أزمته البيولوجية والسيكولوجية، كما فعلت دي عبر أحلام اليقظة وكتابة المذكرات أو عبد الواحد وتمثاله… يتظاهر بأنه نسخة معاصرة من دون جوان “كل شيء بيد الرجل .

.

هو الصياد… وعقله يُخرج (الحية من الزاغور).

قال غسان ذات مرة في إشارة إلى إمكانية إغواء أكثر النساء تحفظاً وتحصّناً، فهذا الفن وهبته الطبيعة للرجل من أجل استمرار النوع البشري على الأرض”.

ص166 ويمضي حديثه مع أصدقائه بلغة متعالية بوصفه مالكاً للحقيقة المطلقة، ولا يترك مناسبة إلا وتثاقف واستعرض مهارته اللغوية “أنت محظوظ يا سجاد لأنك تصنع حكاية.

كل شيء لا يتحوّل إلى حكاية فهو غير موجود”.

وفي رده الساخر على سجاد المتطوع في الحشد والذي قال: والله أنا لست بطلاً ولا أريد تمثالاً ولا صورة معلقة في الشارع ولا أي شيء… سأشعر بالذنب إن بقيت في البيت أكثر… -بل أنت تريد حماماً إلهياً لتغسل نفسك فيه.

تريد الموت لا الدفاع عن المقدسات ولا الوطن، ذاهب برجليك في حج انتحاري كي تتطهّر من الحياة وموبقاتها، وهذه هي الانتكاسة الكبرى يا سجّاد …أن تكفر بالحياة…دع هذا المعبد المزيّف يسقط على رؤوس صانعيه…أنت يا سجاد مجرد خروف في قطيع يسوقه الساسة إلى المسلخ مع الأسف لم تتعلم مني شيئاً… وأنت (نظر إلى صباح هندوم) أنت مجرد ممثل عن ديانة منقرضة في العراق…والذين يعجلون بانقراضها هم هؤلاء الذين تدافع عنهم…الوطن والوطنية التي تتحدث عنها هي في رأسك فحسب… وبمثل هذا السلوك الذرائعي الذي يمارسه عبر الحذلقات اللغوية، والتكلف بطرح المفاهيم الفخمة، وفلسفة الأمور البسيطة عن طريق شحنها باستعارات وتأويلات متعسفة، ليوهم ذاته المهزومة من الداخل بأنه على حق.

هذا الأنموذج، يحيلنا لأمثاله الذين نلتقيهم بكثرة في شارع المتنبي أو الندوات والمؤتمرات الثقافية والأدبية، هذه الشخصية مألوفة في مشهدنا الأدبي والثقافي.

مناخ الخطاب التغيير في العام 2003 وما أحدثه من هزات عميقة في قعر الوجدان الاجتماعي العراقي، طرح العديد من التساؤلات العميقة التي بحاجة إلى إجابة عنها.

لاسيما هذا التحول الذي لم يأتِ فجأة في الحاضر العراقي، بل هو امتداد لمخلفات الحرب العراقية الإيرانية التي عبر عنها المثقفون والإعلاميون والروائيون وكتاب القصة…كل بحسب اجتهاده، بيد أن ثمة تميزاً بالرؤية الفكرية والجمالية لدى الكثير من الروائيين ومنهم سعداوي الذي يحتل مكانة مميزة… (إذا تبحث عن معنى لا بد أن تقدم عملاً بشكل جديد يتناسب مع المعنى الجديد حالة من التجريب) وهذا ما دأب عليه أحمد سعداوي عبر استغلال العمق  الحضاري، وتوظيف سردياته وأساليبه ورموزه وشفراته ومعطياته الفكرية واللاهوتية في النص الروائي.

                                     التناصــات دي وروكنتان في رواية الغثيان يكتب روكنتان في مقدمة المذكرات اليوم، والشهر، والسنة، وعلى النحو الآتي: الاثنين 20/كانون الثاني/1932 وفي رواية مذكرات دي زادت عليها ذكر الساعة الأحد 15 أيلول سبتمبر 2013، الساعة 6:34 م.

كان روكنتان كاتباً وباحثاً وقارئاً لا يكتب يومياته لغاية الكتابة ذاتها، بل يكتب ليشفى من تفكيره، وغثيانه… كذلك تفعل دي إذ تحاول عبرَ كتابة المذكرات التخفيف من توترها، وتقرأ بنهم عن طريق مكتبة أبيها.

  دي وكي كذلك ثمة إحالة لرواية القصر أو القلعة لكافكا إذ إن اسم بطل الرواية K يقابله D في رواية (مذكرات دي) لسعداوي اختار كافكا حرفاً ليرمز إلي الشخصية بدلاً عن ذكر الاسم، ليشعرنا بضآلة الشخصية، التي تتعرض لحالة اغتراب عبر ضغط السلطة البيروقراطية الغامضة، وبدأ صراعه معها بحثاً عن حريته وتحرره حتى مات، ولم يقترب من القصر، أو يحصل على حريته.

هنا نلاحظ التناص المعكوس إذ إن دي بدأت تشبه k لكنها لم تستسلم، وتمكنت من فرض إرادتها وتحررها في نهاية المطاف.

  مجمع الآلهة الحكايات والشخوص التي خلقتها دي أو أعادت إنتاجها لمجمع الآلهة بوساطة أحلام يقظتها، أظهرت علاقتها التناصية مع الألواح السبعة أو أسطورة الخليقة البابلية إينمو-إليش Enumma Elish (عندما في العلا) الذي يعدّ من أهم المؤلفات الشعرية التي عرضت تفصيلاً لمسألة خلق الكون…ولها عدة تسميات مثل (قصة الخليقة) و(ملحمة الخليقة) و(ألواح الخليقة السبعة).

فضلاً عن العلاقة التناصية مع (مجموعة الآلهة السبعة) “وربما كانت هذه الآلهة السبعة (آن) و(أنليل) و(أنكي) و(نينخورساج) و(نانا-سين) و(أوتو) و(إنانا) هي التي تؤلف مجموعة الآلهة السبعة التي كانت (تقدر المصائر)”.

آمون كاني و مردوخ في الرواية آمون كاني هو رئيس مجمع الآلهة، لكنه في النص الأسطوري هو يمثل مردوخ  صاحب الكلمة العليا في تقرير المصائر، بعد قتله تيامت ومسكه زمام الأمور، حتى لقب بخالق العالم.

لكن سعداوي بإعادته إنتاج الأسطورة بث الروح بتيامت وأطلق عليها تسمية مَمَه التي حققت نصراً رمزياً على آمون كاني بعد صراعها الطويل معه بوساطة تخليقها طيفاً أنثوياً.

  مَمَه ومامي مَمَه تقابل مامي في النص البابلي” ونجد الإلهة مامي خالقة البشر بحسب تقاليد معينة نجدها (سيدة الرجال) ونأخذ من هذه التعابير…خطط له بوساطة الآلهة وما له علاقة بالعالم، يشير إلى إنه سيكون على صورة وهيئة مجلس الحكومة حيث الملك محاطاً بوزرائه، يقرر مصير أتباعه وأراضيه، وهذا تقليد لشكل صالة مجلس الآلهة، ويسمونه (مكان المقدرات) حيث الآلهة في مجمعهم  الخاص، وهم (يحددون) و (يقدرون القدر) للعالم ولكل فرد، قدر أو مصير الآلهة وهم (السادة) فيه، ومحضر الجلسة هذه وضع على رقيم من الطين، وهي تشابه ما نعرفه في (كتاب المصير) المحرر بيد الإله – الناسخ نابو المسؤول الأول عن الوثائق من هذا النوع”.

  الديفالون (الملاك الحارس) و (الملاك الطيب) الديفالون “ولم يضرب لها هذا الهاتف الراعي والحامي مجدداً (ديفالون).

لم يخبرها بأنها مقبلة بعد أقل من سنة على وفاة عمتها.

ص61 الملاك الطيب ابتكر المفكرون السومريون وطوروا فكرة وجود إله شخصي، يشبه إلى حد ما الملاك الطيب لكل شخصية مهمة ورب أسرة، ويكون كما لو كان والده الإلهي الذي أنجبه.

وكان المعذب يكشف لإلهه الشخصي عما في قلبه بالصلاة والدعاء، وكان يجد الخلاص عن طريقه.

وثمة مقاطع من ترتيلة سومرية طويلة اقتطعنا منها ما يشير إلى ثمة ملاك حارس “روحاً لتكون رقيبة حارسة”، تبدد الداء الذي يصبه وتحيد عنه القدر الخبيث… “الكلمات الطاهرة التي نطقها، قبلها ربه، (والداء) الذي أصابهُ مثل.

.

بددهُ، القدر الخبيث الذي رسمهُ له وفقاً لحكمهِ قد حاد عنه، لقد حول عناء(؟) الرجل إلى فرح وضع بجانبه.

.

بلطف.

.

روحاً لتكون رقيبة وحارسة، أعطاهُ .

.

ملائكة ذات طلعة وردية، (وهكذا) (الإنسان) يعرب على الدوام عن سمو إلهه”.

    نرد الأقدار ولعبة البليارد “تخيّلتْ أن نرد الأقدار يوزع المصائر بعبثٍ هائل على البشر وأن المهمّة الشاقة لهؤلاء البشر في ما بعد هي أن يعثروا على معنى ما لحياتهم.

يجمعون الأجزاء المتفرقة ويحاولون خلق نسيج لمعنى متماسك ومفهوم.

وخلال ذلك قد تكون حركة بسيطة لا معنى لها لنرد السماوات كافية لأن أكون أنا هذه الطفلة ذات الثياب القذرة… “.

ص147 رمية النرد العابثة تحدّد أقدار ومصائر البشر، كما تخيلتها دي، تقابلها هنا في السماوات عجلة الأقدار الكبرى، أو كما صار الأطياف يسمّيها مؤخراً (روليت الأقدار) تشبيهاً باللعبة الشهيرة.

ص 148 عبارة لوليم جيمس “إن الكون لا يبالي إطلاقاً بالكائنات البشرية ولا بغيرها من الكائنات.

إنها لعملية ميكانيكية تماماً تلك العملية التي تُشرح مبادئها بتشبيه مع لعبة البليارد”….

“يعد هذا الكائن الإنساني في مخطط الأشياء رمية من غير رامٍ، مجرد رمية إحصائية موفقة، كما لو كان لديك مليون فرد يعملون على مليون آلة كاتبة مدة مليون سنة، والرهان أن تُكتب في نقطة ما من عملهم، الموسوعة البريطانية.

بيد أن تصور الكائن الإنساني رمية من غير رامٍ لا يختلف في شيء عن تصوره نتاج نزوة إلهية.

الله في سفر التكوين، صاحب نزوات متقلبة…ثمة دائماً ذلك النوع من الشعور بضربة حظ في سفر التكوين” تناص الرقم 7 وجذر قداسة الرقم ورد توظيف الرقم 7 في الآثار السومرية والبابلية والآكدية والآشورية….

“ومقاربة تفسيرنا بهذا الشأن يعود لمراقبة الهلال ومتابعته سبعة أيام بعد سبعة ليصبح الهلال بدراً ومن ثم يتآكل البدر سبعة بعد أخرى لينتهي محاقاً.

حيث امضى الإنسان 99 % من تاريخه في الغابة أي أمضى ملايين السنيين، وكان فيها البقاء الأكثر رسوخاً هو الخوف من الظلام بوصفه يحتوي على العديد من المفاجآت المميتة سواءً كانت بشرية، أو حيوانية، أو من الزواحف مثل الأفاعي….

في حين يوفر ضوء القمر ولا سيما حين يكون بدراً مساحة من الأمن والطمأنينة للإنسان، ويرصد الرقم 7 في أساطير بلاد النهرين منذ تاريخ التدوين، وما جاء ذكره في العهد القديم والجديد ومن تناول مدلول الرقم سبعة واسرار قداسته….

” كما تكرر في ملحمة كلكامش أكثر من عشرين مرة وعلى النحو الآتي: ولبث ” أنكيدو” يجامع البغي ستة أيام وسبع ليال وشرب من الشراب القوي سبعة أقداح تجمع الناس في شوارع ” أوروك ” إزاء الباب ذي المزاريج السبعة ولكنك حفرت(للإيقاع به) سبع وسبع وجرات ….

وحكمت عليه بالعدو شوط سبع ساعات مضاعفة لحلت في أرض أوروك سبعة سنين عجاف فلو حلت سبعة سنين عجاف ومقدار ستة ” كرات ” من السمن سعة كليهما ومن أجلك ستهجر الزوجة ولو كانت أم سبعة ندبته ستة أيام وسبع ليالي ………….

أبقيته ستة أيام وسبع ليال فبكيته في ستة أيام وسبع ليالٍ فبكيته ستة أيام وسبع ليالي ولم أسلمه للقبر وبهذا فرزتها (قسمتها) إلى سبعة طوابق وتم بناء السفينة في اليوم السابع ومضت ستة أيام وسبع أمسيات ولما حل اليوم السابع خفت وطأة زوابع الطوفان في شدتها ونصبت سبعة وسبعة قدور للقرابين تعال (أمتحنك)! لا تنم ستة أيام وسبع أمسيات ولما كان الرغيف السابع لا يزال على الجمر لمسه فاستيقظ   أثداء مَمَه /العصر الأمومي (الميترياركي) يرد في الرواية عن مَمَه أنها “توقفّت عن عملها، ورفعت جسدها وثدييها الكبيرين الملتصقين بحافة الطاولة”، ص7 هنا التناص يحيلنا لفنان وادي النهرين الذي “كان يظهر المرأة في تماثيله بأثداء حجمها كبير جداً، وبطنها منتفخة في إشارة إلى دورها كرمز للخصب،… كانت السيادة الاجتماعية للمرأة بوصفها رمزاً للخصوبة لهذا، عمد النحات إلى تضخيم اثدائها، وعَبرَ بوساطة هذه الرمزية عن أهميتها في الخصوبة، وهيمنتها الطاغية في المشهد النحتي”.

من بحث لنا بعنوان (حضارة وادي الرافدين اختراع بشري نقض نظرية الكائنات الفضائية الأنوناكي).

      هل مذكرات دي هي الجزء الثاني لرواية الطباشير؟ أولاً: العنوان لو ألقينا نظرة تجاه رصد التشابهات أزعم ثمة تشابه بالاختيارات الآتية أولاً: العنوان باب الطباشير هذا العنوان المثقل بالدلالات والرموز والإحالات الأمر الذي ينسحب على عنوان مذكرات دي التي تحيلنا الي قصة الغثيان لجان بول سارتر…وقصة القلعة لكافكا حيث شخصية K فضلاً عن حشر عنوان على حاشية الغلاف العمودي في أسفل الغلاف وباللغة الإنكليزية Dont dive alone لا تسبح وحيداً إعلان للغواصين المتدربين وعنوان لأغنية.

سنسهب عن العلائق التناصية وتشابه دلالاتها بالإحالة وشحنات التأويل المفتوح….

   الكواشف أو ما يشبه الحِكم عتبات تسبق السارد أو المتن… في باب الطباشير مع مذكرات دي.

  باب الطباشير حَيْنَ سَمَعَهُ الآلِهَةُ ارْتَبَكُوا، اسْتَوْلَى عَلِيْهِم الصَّمْتُ، فَجَلَسُوا وَاجِمِين.

ذو الْفَهْمِ الثَّاقِب، الحَكِيم، الحَاذِق، “أيا” المُلِمُّ بِكُلِّ شيءٍ، أَدْرَكَ خُطَّتَهَم.

أَعَدَّ دَائِرَةً سِحْرِيَّةً مُضَادَةً لَهَا أَلَّفَ بِمَهَارَةٍ رُقْيَّةً مُقَدَّسَةً لا عَاصِمَ مِنْهَا.

أَنْشَدَهَا، وَجَعَلَهَا تَطْفُو فَوْقَ الْمَاء.

*قِصَّة الْخَلِيْقَة البَابِلِيَّة؛ إينوماعليش أَتَمَنَّى لَو كُنَّا فِي سَيَارَتِي وَأَنْتِ مَنْ بَدَّلَ نَاقِلَ الْحَرَكَة كُنَّا سَنَجِدَ أَنْفُسَنَا فِي مَكَانٍ آخَر عَلَى شَاطِئٍ مَهْجُور أَو رُبَّمَا عُدْنَا إِلَى حَيْثُ كُنَّا مِنْ قَبْل.

*جوزيف برودسكي   قَدْ يَكُونُ هَذَا الْعَالَمُ جَحِيْمَ عَالَمٍ آخَر.

*ألدوس هكسلي.

  وفي مذكرات دي إذا اختفى الجميع من حولكِ فلن تشعري بالوحشة، لأنكِ أصلاً تعايشتِ مع هذه الوحشة منذ البداية.

دي   إن غموض الحب يكمن في أن دحضه أو إثباته، يملكان القوة والمنطقية ذاتها.

جمال راجح   المحدود نادر ولا يقدر بثمن.

أما اللانهائي فهو لا نهائي في فقدان قيمته.

ديفالون   إنه شيء مرعب وقاسٍ ان يرجع الإنسان إلى ذاته.

.

هي صورة قديمة .

.

هي سجن.

يوسف زكي   التشابه بعرض الفصول التشابه في تقسيم الروايتين إلى فصول ولكل فصل عنوان، والفصل الواحد إلى وحدات…لكن في باب الطباشير يتكون الفصل من سبع وحدات في حين الفصل في مذكرات دي الفصل متحرر من هذه الوصاية المفروضة على معمار النص، إذ لكل فصل وحدات تزيد وتنقص بحسب حاجة اللجوء للشحنات التعبيرية وعناصر المعنى والدلالة.

  العلامة السيميائية لرقم 7 في رواية باب الطباشير توظيف رمزية الرقم سبعة ومضاعفاته بوصفه علامة سيميائية لربط مع العمق الحضاري لبلاد ما بين النهرين (موزوبوتاميا) في رواية باب الطباشير وكذلك في رواية مذكرات دي فاستعمل الرقم سبعة كوحدة رقمية في باب الطباشير وعلى النحو الآتي: خلال أسبوع ص32، زياراتهم الأسبوعية ص62، بعد أسبوع ص62، عدة أسابيع ص67 ، لبضعة أسابيع ص 165، ذاكرة الأسابيع ص281، ثم الأسابيع السبعة الماضية 331، ثم بقيت لأسابيع ص 334 ، بعدها ينتقل بنحو مغاير، سبعة أمراض، ص 110 ثم مضاعفات الرقم سبعة، السبعينيات ص110، تجاوز السبعين من العمر، ص213 بعدها التعاويذ السبع ص221 تعويذة العوالم السبعة، سبعُ سماوات وسبع أرضين وما بينهما، ص330 ، أن هناك سبع عوالم ص330 ، عالم سابعٌ.

العلامة السيميائية لرقم 7 في رواية مذكرات دي المكون من السبعة الكبار…الكبار السبعة ص8، الشهر السابع ص29، سبعة أسود ص40، الممالك السبعة ص41، استمرت المعارك سبعة أيام ص46، آخر الممالك السبعة…آلهة المدن السبعة المهمين ص47، مملكة كيش والممالك السبعة ص80، الأحد، 14أيلول سبتمبر 2014، الساعة 7مساءً، لاحظ الرقم 7 ومضاعفته ص83، ماذا تفعلين بسبعين إصبعاً؟! ص232، بعد سبعة أشهر ص252، الأشهر السبعة كلها ص253، طلبها للأصابع السبعين ص306، مقاعد السبعة الكبار ص307، لقد مضت ثلاثة أسابيع ص340، أكثر من سبعة مليارات إنسان ص387.

  التشابه في مرتكزات الخطاب الروائي بين الروايتين التشابه الزمني إذ انحصر زمنها فيما بعد الحرب العراقية الإيرانية وحصار التسعينيات وما بعد التغيير في 2003 والأماكن المساحة الأكبر منها تدور في مدن بغداد….

وكان ثمة تماثل بشأن قضية المرأة وما تعانيه من تهميش وضغوطات اجتماعية ومحاولاتها للخروج من هذا الواقع الذي بات لا يتناس مع مكانة المرأة العراقية ونشاطها السياسي والعلمي والثقافية ومشاركتها في الحراك الجماهيري المطالب بالتغيير.

فضلاً عن الثيمات الانطولوجية، والصراع بين قوى اللا دولة وبين الساعيين للارتباط بالحداثة وتفعيل مفاهيم الديمقراطية والليبرالية والتعددية والتنوع…وهناك تأكيد على روح الانتماء بالعمق الحضاري لبلاد ما بين النهرين، وتمظهرات ذلك الحكايات المخلقة بتوظيف الأساطير والميثولوجيا فعلى سبيل المثال اشتراك الروايتين بتوظيف قصة الخليقة إينوما إليش.

  ما سيؤول إليه الوضع السياسي في باب الطباشير كان الاختلاف في الرؤية الاستشرافية لما ستؤول إليه أمور العملية السياسية المستعصية على الحل في رواية باب الطباشير إذ ثمة آمال أو أماني وتوقعات بحلول عبر عدة سيناوريهات للتغيير مثل: “أول نصيحة وجهها علي بصفته مستشاراً لـ (الزعيم) هي أن يحاول الاتصال بالمؤسسات الاجتماعية التقليدية ويطمئنها على أهداف الانقلابيين، وأن الهدف هو محاربة الفساد وليس إلغاء العملية الديمقراطية، وأنهم سيعملون على تأسيس النظام الديمقراطي من جديد.

باب الطباشير ص 170.

  أما رواية مذكرات دي فقراءة المستقبل لا تطرح حلولاً آنية للواقع المزري الذي يعيشه العراقيون، بيد أنها تؤجل ذلك ليس إلى المستقبل القريب، بل إلى ما هو أبعد من ذلك… فمثلاً، خديجة في الرواية وابنها زيد وابنتها نوار، متصالحون مع واقعهم التقليدي الساكن المتعارض مع الحداثة، فزيد سمى ابنه محمد، وابنتها نور سمتها خديجة في إشارة لديمومة النهج والفكر بدلالة الأسماء.

أما دي وزوجها فانطلقا نحو الشمال بدلالة رمزية إلى الارتفاع في الخريطة العراقية أو ارتفاع الوعي، حيث خلف الجبال الغيوم المتحولة والمتغيرة في تشكلها فضلاً عن أن الغيوم مرتبط بالمطر والنماء (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ…)، ومن جانب آخر تعني السير نحو الحداثة، والارتباط مع ما يحدث في العالم من تطور ومتغيرات، يحدوهم الأمل في صناعة مستقبل مازال ينازعهم عليه أولاد زيد ونوار في حين دي وزوجها يوسف مازالا من دون ولد يمثل مستقبلهم، ما تستشفه نبوءة السعداوي أن مرحلة التغيير بحاجة لزمن ونحن الآن نعيش في خضم ارهاصاته.

الرواية عرت هزال هذه الشخصيات المأزومة والمهزومة، وكشفت زيف ما تخفي خلف اقنعتها من اندحار وانكسار، وأظهرت صراعها المرير لأثبات ذاتها وتحررها.

الحالة الإيجابية الوحيدة، هي تفرد دي بتمردها على الأنساق الاجتماعية، بثقافاتها وتقاليدها وتعظيمها للسطوة الذكورية، فكسرت قيود عزلتها، وفرضت إرادتها وتحررها… السؤال هنا، هل البنى الفكرية في الرواية تحفز على تحرير الوعي أم أنها تنتج وعياً؟ نزعم أن السعداوي بهذا المعنى ليس روائياً متفرداً، بل هو حالة ضمن نخبة من الروائيين العراقيين الذين ينتجون وعياً أو بمعنى آخر يؤسسون لوعي سياسي يتنامى بوتيرة متسارعة زاد من زخمها الحراك التشريني؟     ص130 الديانة عند البابليين تأليف البروفسور جان بوتيرو ترجمة الدكتور وليد الجادر (كتاب الثنائيات الضدية بحث في المصطلح ودلالته، تأليف، سمر الديوب) ص141 ص 22 الخطاب الروائي ميخائيل باختين.

ترجمة محمد برادة دار الفكر للنشر والتوزيع مصر/القاهرة الطبعة الأولى 1987 ص118 سومر أسطورة وملحمة تأليف الدكتور فاضل عبد الواحد، الناشر: دار الشؤون الثقافية العامة، العراق/ بغداد، الطبعة الثانية السنة2000 ص163 صموئيل نوح كريمر السومريون تاريخهم حضارتهم وخصائصهم ترجمة الدكتور فيصل الوائلي مكتبة الحضارات بغداد شارع المتنبي طبع في بيروت لبنان الطبعة الأولى 1970.

ص105 الديانة عند البابليين السومريون ص168 صموئيل نوح كريمر.

ص 16 جوزيف كامبل الأساطير والأحلام والدين الطبعة الأولى 2001 دار الكلمة للنشر والتوزيع سورية-دمشق.

ينظر بحثنا (تناصات توراتية.

.

ملحمة كلكامش عشتار – إيشولنُّو = زليخا – يوسف) موقع الحوار المتمدن.

ملحمة كلكامش ترجمة طه باقر طبعة دار الحرية بغداد 1975 مشاركة

العراق      |      المصدر: الزمان    (منذ: 3 سنوات | 9 قراءة)
.