السياسات الثقافية للحوثيين: الأساليب والقنوات والخطاب 1-2

لم تكتفِ جماعة الحوثي بما قامت به في حربها العبثية على اليمن من تمزيق للسلم الاجتماعي والهوية اليمنية وقيم التعايش بل تمضي قدما في تأكيد وجودها كجائحة طائفية من خلال عمليات التطييف المستمرة التي تقوم بها والمتمثلة في ما يمكن تسميته بتشييع المجتمع، فبعد أن كانت الجماعة قد خاضت العديد من الحروب والمعارك ضد التيارات الدينية المخالفة لها مذهبياً في توجه واضح نحو فرض الأحادية المذهبية، مضت أبعد من ذلك محاولة تشييع المجتمع في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، من خلال العديد من الآليات والممارسات التي لا تقف عند فرض اللون الواحد وتجاوز الهوية الوطنية إلى الهوية المذهبية، وحسب، بل تمضي، مستندة في ذلك إلى سلطة الأمر الواقع التي فرضتها، صوب الغاء الممارسات والطقوس والفنون والشعائر الاجتماعية والوطنية، بل وثقافة الاختلاف بشكل عام، وتثبيت معتقداتها هي –أي الجماعة – وتلوين المجتمع بلونها.

وعلى أن الجماعة، التي تبني فكرها على الأرضية الزيدية، ظلت تراوغ في بداياتها دون الافصاح عن طبيعتها المذهبية، ورؤاها، على الأقل من خلال الخطاب السياسي الظاهر، فقد أصبحت أكثر انكشافاً فيما بعد ذلك، فمنذ سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء، عمدت إلى تطييف المجتمع من خلال العديد من الممارسات التي اخترقت بها االمؤسسة التعليمية بالإضافة إلى اعتمادها على آليات وأساليب خاصة بها، يمكن أن نتتبعها في هذا المقال بالرصد والتحليل.

الخلفية الفكرية للحوثيين تستند جماعة الحوثي فكرياً إلى أطروحات بدر الدين الحوثي وهو أحد فقهاء المذهب الزيدي المتأثر بالمذهب الشيعي الإيراني، وقد تمت استضافته مع أبنائه (يحيى ومحمد وحسين وعبدالملك) في إيران، في تسعينيات القرن الماضي، لأكثر من عام وتمت إعادتهم بهدف تكوين تنظيم مسلح يتم دعمه مالياً ليكون نموذج لحزب الله في لبنان وقد تم تشكيل ما كان يعرف بتنظيم الشباب المؤمن الذي سوف يتطور على يد أحد الأبناء “حسين بدر الدين الحوثي” إلى ما يعرف الآن بحركة الحوثيين، الذي بدأ تشكيل الجماعة من خلال محاضرات كان يلقيها على الناس في صعدة مثلت أساس الاستقطاب للمناصرين والأتباع.

واستمر الحوثيون في نشر أفكار حسين بدر الدين الحوثي بعد مقتله في العام 2004م، إذ تحول كثير من مريديه، إلى محاضرين ودعاة للاستقطاب فيما يعرف بالدورات الثقافية، وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت لدى الحوثيين لنشر أفكارهم وتعبئة المنتمين لهم عقائدياً وإعداد المقاتلين، ولكنها لن تستمر كذلك، فلقد أصبح للجماعة كيانها المستقل الذي سوف يصبح له خطابه وأسالبيه الخاصة في الاستقطاب، ومحاولات تطييف المجتمع اليمني، ومن خلال قنوات وأساليب عدة، تبدأ من أدبيات الجماعة الخاصة، وقنواتها الثقافية الخاصة، وتنتهي، بعد سيطرتها على العاصمة صنعاء، باستغلال المؤسسات التعليمية والإعلامية ودور التنشأة والعبادة لتوسع من نشاطها في الاستقطاب، وتطييف المجتمع وتشييعه وفرض الصوت الواحد، والفكر الأحادي في المجتمع، وهو ما نحاول رصده وتحليله في هذا المقال من خلال محورين أساسيين: السياسات الثقافية للحوثيين كجماعة: وتتمثل في الأدبيات والأساليب الخاصة بالحوثيين كجماعة مليشاوية لها أدبياتها وقنواة الاتصال الخاصة بها مثل الملازم، والدورات الثقافية، والاحتفالات الدينية الشيعية، والزوامل.

السياسات الثقافة للحوثيين كسلطة أمر واقع: ويتمثل في الممارسات التي قامت بها الجماعة بعد الاستيلاء على العاصمة صنعاء فيما يتعلق بتطييف المجتمع مستخدمة وسائل الإعلام ودور التنشأة الاجتماعية ودور العبادة والمؤسسات التعليمية.

أولاً السياسات الثقافية للحوثيين كجماعة: الملازم الحوثية: ما يسمى «ملازم الحوثي» هي عبارة عن ملازم ورقية، تتضمن محاضرات مؤسس الحركة الحوثية «حسين بدر الدين الحوثي» الذي كان اتخذ من هذه المحاضرات المحاضرات التي كان يلقيها في المقايل والمجالس والتجمعات في محافظة صعدة خلال الفترة من عام 1999 – 2004، وسيلة للاستقطاب ونشر أفكاره، قبل أن يلقى حتفه في الحرب الأولى التي قادها ضد الجيش اليمني عام 2004؛ ما دفع بأحد تلاميذه إلى تفريغ المحاضرات الصوتية إلى أوراق يصل إلى ما يقارب 60 ملزمة، ومتاحة بصيغة رقمية على موقع أنصار الله على شبكة الإنترنت.

وتمثل بشكل عام تمثل مجمل أدبيات الجماعة أو جوهرها.

وليست هذه المحاضرات أو الملازم، سوى تجديفات باللهجة الدارجة يجمع فيها حسين بدر الدين الحوثي ما بين السياسة والدين، بل لا يمكن أن تدخل ضمن المنجز التفسيري كحقل معرفي له مكانته في التراكم المعرفي العربي، ولا أعني هنا تلك اللغة العامية التي تسيطر عليها ولكن في الوعي النصي بالقرآن، وآليات القراءة والتأويل، حيث تبدو سطحية لا تعطي أي أهمية لبنية اللغة وتشكلها، ومستوياتها التركيبية أو الدلالية، ولا حتى لسياقها التاريخي الاجتماعي، بقدر ما تتعسفها تعسفاً لتمثل على نحو ما إسقاطات على الواقع السياسي، أو خلفية لتصور أيديولوجي، مسبق، وعصبوي، وضيق.

ولا ترقى هذه الملازم من حيث الأسلوب أو الصياغة أو القيم والمبادئ والمضامين، حتى لأدبيات جماعات الإسلام السياسي الأخرى كالوهابية والإخوان (نعني مثل رسالة التوحيد لمحمد بن عبدالوهاب، أو معالم في الطريق لسيد قطب عوضاً عن ظلال القرآن لسيد قطب ذلك الكتاب التفسيري التأملي)، ومع ذلك فإنها صورة صادقة عن طبيعة الجماعة الشعبوية والمليشاوية والمهجنة، ومن خلالها يمكن قراءة الحاكمية والولاية والمبادئ التي يقوم عليها فكر الجماعة، بيد أنها وبكل معنى الكلمة، تعد أكبر إساءة للقرآن الكريم عبر التاريخ.

الدورات الثقافية: ينتهج الحوثيون أسلوب ما يسمى بالدورات الثقافية وهي عبارة عن دورات يتم فيها اخضاع المستهدف استقطابهم وتدريبهم وتهيئتهم كمقاتلين، أو أتباع للجماعة، لمحاضرات تلقينية تنطلق من الملازم أو يبنى عليها ويحاضر فيها عدد من المنتمين عقائديا للجماعة ممن لقنوا محاضرات الحوثي أو ملازمه، ليعملوا فيما يشبه “المعلمين”.

وكانت هذه الدورات تستهدف الأطفال والأميين، ولكن دائرة المستهدفين سوف تتسع فيما بعد سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء لتشمل حتى الشخصيات السياسية والقبلية والأعيان والأمناء والقادة والمؤثريين الاجتماعيين وحتى القادة الإداريين في مختلف مؤسسات الدولة خصوصاً الذين يتموضعون في مواقع قيادية متقدمة أو أو ألئك الذين يريد الحوثيين الاستفادة منهم في مواقع معينة.

وتتم هذه الدورات الثقافية في أماكن غير معروفة، وعادة ما يتم اقتياد المستقطبين إلى أماكن مجهولة وقطع كل سبل تواصلهم مع العالم، ودمجهم في برامج تدريبية تستمر ما بين عشرة أيام إلى شهرين.

المناسبات الدينية: بالرغم من أن جماعة الحوثي، التي تبني فكرها على الأرضية الزيدية، ظلت تراوغ في بداياتها دون الافصاح عن طبيعتها المذهبية، ورؤاها، على الأقل من خلال الخطاب السياسي الظاهر، فقد أصبحت أكثر انكشافاً فيما بعد ذلك، فمنذ سيطرة الجماعة على العاصمة صنعاء، عمدت إلى احياء العديد من المناسبات الدينية الخاصة بها، والتحشيد لها، وهي مناسبات شيعية في معظمها، مثل المولد النبوي، يوم الولاية (الغدير)، ميلاد الإمام علي، يوم مقتل الإمام علي، كربلاء (مقتل الحسين)، يوم عاشوراء، وغير ذلك في توجه واضح نحو تطييف المجتمع وتشييعه.

وتختلف هذه المناسبات ما بين مناسبات دخيلة على اليمنيين بما في ذلك الطائفة الزيدية التي تبني جماعة الحوثي وجودها على أرضيتها، ومناسبات كان اليمنيون في المناطق الزيدية مثلاً يحتفلون بها قبل سيطرة الحوثيين، وبشكل بسيط وعفوي، دون تحشيد وهالة، وقام الحوثيون بتوسيع نطاقها بل وتشوييها واخراجها عن مدلولها الروحاني، أي أنها كانت تقام في شكل محدود ودوائر ضيقة مثل المساجد أو المنازل وبين أشخاص محدودين، بينما خرج الحوثيون بها من أطرها المحدودة وأشكالها المألوفة لدى الزيدية في شمال إلى اليمن، إلى الإطار أو المجال العام، مفروضة فرضاً، حيث يتم احياؤها في المدارس والمرافق الحكومية، أو تقام لها احتفاليات خاصة عبر المنابر الثقافية الرسمية وغير الرسمية، مصحوبةً بكمية مهولة من الدعاية والإعلام، مثل مكبرات الصوت في الشوارع والرسوم واللافتات، بل وتمتد إلى مواقع التواصل الاجتماعي، ووسائل الإعلام الحكومية، وتفرض فرضاً على المؤسسات الحكومية وقنواتها.

وتسهم هذه المناسبات واقامتها، على نحو غير مسبوق، في منح المذهب الزيدي طابعاً اثنا عشرياً، ذلك أن من هذه الاحتفاليات ما لم يكن يحتفل بها لدى الزيدية في اليمن، وبمعنى من المعاني فإن الجماعة تعمل بشكل من الأشكال على تشييع أو تشويه المذهب الزيدي من خلال ادخال طقوس شيعية بحتة تنتمي للمذهب الاثناعشري إلى المذهب الزيدي، ويتضح من خلال هذا المؤثر الايراني الخطير في طبيعة الجماعة، أي أن الطابع الايراني لا يتوقف على الدعم السياسي والعسكري والمعنوي الذي تقدمه إيران للجماعة بل من خلال محاولة سحب المذهب الزيدي ذي الطابع العقلاني والخلفية المشتركة مع المذاهب المختلفة بما فيها السنية، إلى مربع المذاهب الشيعية المتطرفة، مثل الاثنا عشرية.

ولا يمكن تبرئة الحوثيين من الضغط الذي تتعرض له الجماعة من قبل داعمهم الأساسي إيران، إذ يبدو لنا أن هذه المناسبات واحياؤها قد تكون مفروض فرضاً على جماعة الحوثيين من قبل التيارات الدينية الشيعية أو بالأصح من قبل شيعة إيران، على اعتبار أن ما يقدم للجماعة من دعم يمكن أن يكون دعماً مشروطاً، يؤكد هذا كون الجماعة ونظراً لمرجعياتها الدينية الزيدية في اليمن لم تكن تحتفل بهذه المناسبات، إن التقارب الرهيب الذي نراه بين زيدية اليمن وشيعة إيران والعراق، وفي طقوس لم تكن موجودة في اليمن قبلاً، يشير إلى مشتركات أو أرضية خفية يتم الاشتغال عليها أو تكريسها من قبل تأثيرات خارجية لا بد أن إيران وراءها بشكل عام.

وفي كل الأحوال فإن للمناسبات الدينية الشيعية التي يقيمها الحوثيين إلى جانب تشييع المجتمع، وظائف عملية عدة، أهمها خلق نوع من الروح الجماعية والمشتركات الطقسية للأتباع، بكل ما يعنيه الطقس في مفهومه الانثروبولوجي، من توحيد للجماعة، من الناحية النفسية والخطابية، وسلب للذات الفردية لتذوب في إطار الجماعة، وتتموضع في خطابها ومعتقداتها، وبتعبير آخر فإن من أهم وظائف الاحتفالات الدينية لدى الحوثيين هو تعميق تشييع المجتمع، فمن الملاحظ أن الجماعة التي صارت تقمع كل الفنون وتقوم بتكميم الأفواه وتسعى إلى تشييع المجتمع وتمنع التقاليد الدينية السنية في المجتمع نفسها، تسعى لفرض وتكريس المنحى الشيعي في المجتمع، وهو اتجاه يعد من مرتكزات الجماعة ذات التوجه الزيدي، الذي اتجه نحو التشيع بشكله الاثنا عشري منذ بداية الحركة على يد مؤسسها حسين بدر الدين الحوثي الذي سافر إلى طهران وأقام بها عدة سنوات وتأثر بالخميني والنموذج الإيراني.

ويحيي الحوثيون هذه المناسبات ويسخرون لها الأموال الطائلة ويفرضون من خلالها التبرعات والأتاوات لتمثل إحدى ذرائع وفرص التكسب من أجل تمويل الجماعة وثراء قادتها، في الوقت الذي يعاني فيه المواطنون في مناطق سيطرة الجماعة من أزمة غذائية، وانقطاع المرتبات على القطاع الحكومي، وتكاد المجاعة تضرب بهم، عوضاً عن الأوبئة والأمراض التي تفشت في عهد الجماعة التي تتخذ من هذه المناسبات أو احياء الفعاليات بهدف التحشيد وتكريس خطاب الجماعة العدواني والتحريضي، واستقطاب المقاتلين، في واحدة من أسوأ تجليات الأحادية وتكريسها والاستعراض والبروباقندا الحوثية.

ماضية في تكريس الخطاب الطائفي كخطاب سلطوي يعكس ثقافة القوة والعنف، وحيث يمكن للون الأحادي أن يخدم الجماعة ويجعل العامة تمضي كالقطيع في اذعانها لسلطة الأمر الواقع، في واحدة من أخطر الجوائح التي مرت باليمن.

الزوامل: والزامل فن شعبي يمني له مكانته ووظائفه لدى المجتمع القبلي في معظم مناطق اليمن، باعتباره جزءاً من الفولكلور الشعبي، وقد عمل الحوثيون على نسج أناشيد حماسية مستخدمين ايقاعات وأساليب هذا الفن الشعبي العريق الفنية والأسلوبية، لتصبح لديهم بمثابة الأناشيد الدينية لحزب الله، لتمثل بالنسبة للجماعة المعادل الموضوعي للأناشيد الحماسية لحزب الله.

والزوامل عبارة عن أناشيد حماسية قتالية، وتحمل مضامين سياسية طائفية، وهي مقاطع شعرية مغناة ينظمها عادة شعراء من أتباع الجماعة، وتغنى على ألحان فولكلورية غالباً، ويؤديها منشدون من الجماعة، أشهرهم “لطف القحوم” و”عيسى الليث”، ويصاحب أداء المنشد الرئيسي أداء جماعي على إيقاع الطبل الشعبي المعروف في اليمن، وتحضر في مختلف مناسبات الحوثيين، وتبث عبر وسائل إعلامهم.

وتأتي خطورة الزامل الحوثي في محاولة الجماعة إحلاله في الفضاء السمعي الفني للمجتمع، محل مختلف الفنون السمعية، إذ تحاول تعميمه على المجتمع باعتباره الشكل الفني الوحيد المعترف به لدى الجماعة التي تحرم الغناء، وبدأت منذ اقتحامها لمدينة عمران باعتقال الفنانين ومنع الغناء.

وقبل ذلك، فإن الزامل في أصله الشعبي لدى القبائل اليمنية، يستخدم لأغراض عدة، في مختلف حالات المجتمع، من الحرب إلى السلم، إلى العمل، ومختلف المناسبات، ولكن جماعة الحوثي تستخدمه على أحط مستوى، وهي الوظيفة الحربية، حيث الشكل الفني الشعري يمثل محمولات دلالية طائفية وعدائية.

وتشكل جزءاً لا يتجزأ من انتشار ثقافة العنف التي تغذي النزاع والصراع في اليمن.

  لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

الحقول الإلزامية مشار إليها بـ * التعليق * الاسم * البريد الإلكتروني * الموقع الإلكتروني احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.

اليمن      |      المصدر: المدونة اليمنية    (منذ: 4 سنوات | 245 قراءة)
.