«جوازات سفر» لمواد البناء تشكل ملامح مدينة الغد

تعاني المدن التلوث من جراء الاكتظاظ في الطرق وكثرة المباني، المسؤولة عن نحو 40 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي تصور دائما على أنها مفسدة للاستدامة.

إنها تستهلك أكثر من 75 في المائة من جميع الموارد الطبيعية؛ وتنتج أكثر من 50 في المائة من النفايات العالمية.

إنها متوحشة.

ومع ذلك، فلربما كانت من قبيل المفارقة أنها أنجح وسيلة وأكثرها استدامة للعيش.

يمكن أن تعتمد المدن على وسائل النقل العام الفعالة بدلا من السيارات؛ ويمكن أن تكون مهيئة للمشي وإعادة التدوير.

وبفضل قرب الأفراد من الخدمات، يمكنها أن تحقق كفاءات رائعة في استخدام الطاقة.

حتى المدن ذات المناخ القاسي مثل أوسلو أو هلسنكي، يمكنها تطوير أنظمة تدفئة مجتمعية كمنتج ثانوي لتوليد الطاقة، إذ ستكون نظيفة وفعالة مقارنة على سبيل المثال، بمراجل الغاز الفردية السائدة في بريطانيا.

إذا كان الاقتصاد الدائري يريد تجاوز أنموذج الاستهلاك "خذ-اصنع-ألق"، فقد تكون المباني مثالا واضحا لتحقيق ذلك.

انظر إلى مشروعين سكنيين فرنسيين جديدين، وهما تو بوي لي بريتر في باريس وسيتي دو جراند بارك في بوردو.

يعارض كل منهما بشكل جذري الممارسة التقليدية المتمثلة في هدم المساكن القديمة غير الفعالة من الناحية الاسمية، وإعادة بنائها من جديد بأشكال أكثر عصرية.

بدلا من ذلك، هم قادرون على الحفاظ على البنية التحتية الحالية للإسكان الاجتماعي، وإبقاء المستأجرين في شققهم أثناء تحويل كتل الحجر عبر طبقة خارجية جديدة للهيكل.

الشقق التي كانت رثة سابقا تتألق الآن بشرفات وحدائق شتوية جديدة.

وبالقدر نفسه من الأهمية: في كل عمليتي الإصلاح، تم توفير كمية هائلة من الطاقة المجسدة في الهياكل الحالية.

وفقا لتقرير صدر العام الماضي من مركز الأبحاث تشاتام هاوس، تمثل صناعة إنتاج الأسمنت 8 في المائة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون السنوية في العالم -لو كانت دولة لاحتلت المركز الثالث كأكبر مصدر للانبعاثات بعد الصين والولايات المتحدة.

هناك وفورات يصعب قياسها أيضا: البناء الجديد يمزق المجتمعات الراسخة في كثير من الأحيان، ما يعطل الشبكات التي تسهل العيش المستدام في المدينة، من خلال تبادلات صغيرة للمصالح والأعمال الروتينية التي تتم من خلال الثقة والصحبة.

عندما تم تصميم كتل الأبراج الأصلية وبناؤها في الخمسينيات والستينيات كان المهندسون المعماريون مندهشين ليس من اكتشاف الخرسانة فحسب، بل أيضا من السيارة.

الطرق سريعة والجسور علوية ومواقف السيارات حلت مكان المباني القديمة، إلا أن السيارات أثبتت أنها كارثية بالنسبة إلى المدن، ما أتاح التوسع الهائل في الضواحي وما خلفها، ولا يمكن تحملها بشكل جذري -ليس بسبب بعدها عن أماكن العمل والترفيه فحسب، بل بسبب فشلها في بناء المجتمعات كذلك.

مالو هاتسون، أستاذ مشارك للتخطيط الحضري في جامعة كولومبيا في نيويورك يقول: "التنقل هو المشكلة الأولى.

وحله لن يأتي عبر كهربة السيارات فحسب، بل أيضا عبر النقل البحري، ولربما الطيران حتى.

يجب أن نفكر في المدينة بطريقة مختلفة، كيف لا نبني مواقف سيارات ضخمة؟ وكيف يمكننا إنشاء مدن متضامة أكثر؟".

كما يعتقد أيضا أن السيارات ذاتية القيادة قد تغير الأمور إلى الأفضل، لأنها يمكن أن تخضع لمخططات المشاركة؛ وهذا بدوره يمكن أن يقلل من الحاجة إلى أماكن وقوف السيارات، وبالتالي يمكن استخدام الأراضي بشكل أكثر كفاءة.

على أن التغلب على عواقب عقود من التمدد العمراني مهمة هائلة.

إن التغيرات المطلوبة ضخمة للغاية، لدرجة أن المطالبين بها حريصون على تأطيرها باعتبارها إيجابية ليس من حيث الاستدامة فحسب، بل أيضا من حيث النمو الاقتصادي.

"الصفقة الخضراء الجديدة" التي ترعاها ألكساندريا أوكاسايو-كورتيز عضوة الكونجرس في الولايات المتحدة، هي بالضبط محاولة لإعادة صياغة الضرورات الخضراء في صورة روزفلتية، بصفتها دافعة للاقتصاد وليست كابحة له.

يقول هاتسون: "نحتاج إلى محادثة صادقة حول هذا الموضوع.

ستكون هناك خسائر في الوظائف وتغيرات ضخمة، لكن سيكون هناك أيضا فرص وظائف جديدة في مجالات البناء والإسكان، ومهارات وابتكارات جديدة".

يشير تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2016 إلى أن 40 في المائة من النفايات الصلبة في الولايات المتحدة يأتي من البناء والهدم، ويمثل "خسارة كبيرة للمعادن الثمينة والمعادن والمواد العضوية" التي يمكن أن تغذي الاقتصاد الدائري.

ولعل التحول الأكثر إثارة للاهتمام الجاري حاليا في التفكير الحضري يتبنى هذا الفكر ويعمل به.

تهدف المبادرة التي يرعاها الاتحاد الأوروبي والمعروفة باسم بامب Bamb -المباني مثل مصارف المواد- إلى تغيير النهج المتبع في صناعة البناء لعملية الهدم، وتفسيرها على أنها ليست عملية تدميرية لكنها عملية بناءة، يتم فيها فك المباني، وإعادة استخدام الأجزاء المكونة لها والمواد.

تهدف "بامب" إلى تصميم المباني مع أخذ ذلك في الحسبان؛ وتدعو إلى استخدام "جوازات سفر للمواد" التي توضع على منصة رقمية إذ "تعرف المواد وتظهر مساراتها الدائرية"، أي حلقات إعادة تدويرها.

جورجيا برايس، مهندسة معمارية من مجموعة آروب Arup الهندسية العالمية تقول: "هناك تغيير في المواقف فيما يتعلق بهدم المباني القائمة إذ يتم النظر إلى المباني على أنها مصارف.

يمكن أن نستخدم جوازات السفر المادية لتعقبها طوال حياتها، أحد الاحتمالات هو وضع رقائق تحديد الهوية بموجات الراديو آر إف آي دي RFID في مكونات البناء، ما يتيح تتبعها من المصنع إلى موقع البناء وتحديد موقعها.

حتى الآن نالت الفكرة إقبالا ضئيلا في الصناعة، لأن قاعدة البيانات التي ستنتج عنها ستكون ضخمة، وهناك مسألة من سيملك البيانات؟ وفي الوقت نفسه، يحاول عديد من المنظمات غير الربحية الجديدة إنقاذ المواد من المباني قبل الهدم وبيعها -بجزء بسيط من تكلفتها عندما تكون جديدة- للمهندسين المعماريين الذين لديهم اهتمام بالاستدامة وحب المنتجات المعاد استخدامها.

من بين تلك المنظمات روتور ديكونستركشنRotor Deconstruction في بروكسل وبنك أوف ماتيريالز Bank of Materials التابع لكلية الهندسة المعمارية في آرهوس، الدنمارك.

كلاهما بدأ في التوسع لتقديم خيار حقيقي للمهندسين المعماريين والمقاولين.

أحد التشريعات الحديثة المهمة من الاتحاد الأوروبي قد يسرع تغيير المواقف.

في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تم تطبيق قوانين "الحق في الإصلاح" التي وضعت المسؤولية على الشركات المصنعة عند تصميم منتجات يمكن إصلاحها بدلا من الخضوع للتلف المخطط له، وهي فلسفة تصميم مريبة أصبحت سائدة خلال طفرة ما بعد الحرب الأمريكية.

إذا استطعنا تغيير توقعاتنا بشأن الغسالات والهواتف، فلعلها ستتغير بشكل مماثل فيما يتعلق بالمباني والبنية التحتية.

في هذه الصناعات الأخيرة ستكون القدرة على إعادة التخيل مهمة بقدر القدرة على الإصلاح أو إعادة البناء.

ربما يمكن إعادة هندسة الأبنية القديمة التي يعتقد بأنها بالية من الماضي القريب بالطريقة نفسها التي تم بها تحويل المباني الصناعية في القرنين الـ19، والـ20 إلى دور علوية ومعارض ومطاعم.

قد يبدو موقف السيارات متعدد الطوابق أقل أنواع المباني قابلية للتكيف، إلا أن مثال بيكهام ليفيلز في جنوب لندن قد أعاد تخيله باعتباره مساحة ثقافية، مع استوديوهات للفنانين ومؤسسات اجتماعية ومطاعم ومقهى شهير على السطح الآن.

هل يمكن تطبيق أفكار مماثلة على مراكز التسوق الفارغة؟ ومراكز التسوق في الضواحي الآخذة في التلاشي؟ هل يمكنها استيعاب ورش عمل صغيرة وأسواق ومزارع؟ مؤسسات يمكنها تكثيف هذه الضواحي بتحويلها إلى أماكن للإنتاج والتغيير، بدلا من كونها مجرد مهاجع؟ وفقا لتقرير صادر عن إحدى الشركات فإنه في مدينة دائرية "يتم تصميم المنتجات والأصول لتكون أكثر استدامة، ويتم إصلاحها وتجديدها وإعادة استخدامها وتفكيكها".

سيتطلب ذلك تغييرا جوهريا في النهج من قبل المخططين والمهندسين المعماريين ومن قبل المواطنين الذين يخدمونهم.

سيحدث تجديد لكن بطريقة ما، كل شيء سيكون قديم الطراز.

عندما انهارت روما الإمبراطورية وخضعت مبانيها تدريجيا للعنف أو الإهمال، تم أخذ الحجارة وإعادة استخدامها لبناء المنازل والكنائس والآبار والساحات.

ويبقى أن الشظايا لا تزال موجودة هناك.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 4 سنوات | 17 قراءة)
.