مصطفى بيومي يكتب: 150 شخصية روائية مصرية «14» لطيفة الزيات.. ليلى محمد في رواية "الباب المفتوح"

مصطفى بيومي يكتب: 150 شخصية روائية مصرية «14» لطيفة الزيات.. ليلى محمد في رواية "الباب المفتوح"

على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.

.

الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.

.

يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.

عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية فى مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية فى قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».

«البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة فى عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

لطيفة الزيات.

.

«ليلى محمد سليمان» في رواية "الباب المفتوح"بين عامى ١٩٤٦ و١٩٥٦، تعيش مصر سنوات حافلة بالمتغيرات الموضوعية الجذرية التى تزلزل الراسخ المستقر من الثوابت السياسية والاجتماعية والثقافية.

من البديهى أن ينعكس الأمر على رجال ونساء المرحلة التاريخية، لكن المرأة هى المقياس الأهم لإدراك عمق وخطورة التحولات العاصفة، ذلك أن الهموم والتحديات التى تواجهها ليست سياسية خالصة كما هو الحال عند الرجال، بل إنها اجتماعية تطول الموقع الذى تحتله فى خريطة الحياة اليومية، حيث القهر والاضطهاد والنظرة الدونية وهيمنة التمييز سالب الحق المشروع فى الحب والخصوصية والمساواة مع الرجل فى الحقوق والواجبات.

المرأة المصرية، بحكم وضعيتها الجنسية، تعانى قهرًا مضاعفًا موروثًا، وتواجه سدودًا من التقاليد والقيم الراكدة التى تحول دون تحققها وانطلاقها والوصول إلى المكانة التى تليق بقدرتها على العطاء من منظور الكفاءة والموهبة دون نظر إلى الجنس.

ليلى محمد سليمان، الشخصية المحورية الرئيسة فى رواية لطيفة الزيات، ابنة موظف بسيط فى وزارة المالية، وأمها ربة بيت تقليدية.

تولد فى منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين، وتعبر مسيرتها عن جيل من البنات المصريات يختلف بالضرورة عن الأجيال السابقة واللاحقة، فهن على موعد مع مرحلة جديدة تجمع بين أحلام التحرر الوطنى والتطلع إلى حرية المرأة بالمعنى الحقيقى الشامل.

 التقاطع قائم بين المحطات الوطنية الأبرز فى التاريخ المصرى ومراحل نمو ليلى من الطفولة إلى الشباب مرورا بالمراهقة.

هكذا تتوافق طفولتها مع الحراك الشعبى العملاق فى فبراير ١٩٤٦، ويقترن شبابها والتحاقها بالجامعة وتخرجها وعملها فى التدريس مع العدوان الثلاثى ومقاومته قرب نهاية ١٩٥٦، وبينهما تتفاعل مع إلغاء معاهدة ١٩٣٦ والكفاح المسلح فى القناة وحريق القاهرة وثورة يوليو وتأميم شركة قناة السويس.

ترصد الرواية رحلة ليلى الطويلة مع الرجال، وتتوقف أمام مسيرة الوطن خلال السنوات نفسها مع التحديات التى تواجهه.

كلاهما، ليلى والوطن، يتطلع إلى الاستقلال والحرية والتخلص من قيود التبعية، لكن النجاح ليس ميسورًا، والاستسلام غير مطروح.

تبدأ أحداث الرواية وليلى طفلة فى عامها الحادى عشر، طالبة فى الصف الأول الثانوى بمدرسة السنية.

يشارك شقيقها محمود فى المظاهرات الوطنية العارمة، وتصيبه رصاصة فى ساقه.

مقابل قلق الأب وتوتره، تتجلى حماسة الطفلة التى تباهى فى المدرسة بما يطول أخاها من الأذى: «الإنجليز ضربوه.

.

ضربوه عشان وطني، عشان بطل».

تضفى على محمود هالة أسطورية، وتكشف عبر الفخر الذى تبديه عن طبيعة المرحلة التاريخية وما تتسم به من توجهات وطنية، لكن سلطة الأب المحافظ هى التحدى الأول الذى تواجهه ليلى.

مع بداية الدورة الشهرية، علامة البلوغ والاقتراب من الأنوثة، يرسم الأب قواعد المرحلة الجديدة: «انتِ ضرورى تدركى يا ليلى إنك كبرتِ، ومن هنا ورايح خروج لوحدك ما فيش، زيارات ما فيش، من المدرسة على البيت.

.

».

يتبخر التسامح النسبى المحدود الذى تعرفه ليلى فى سنوات الطفولة، والوصول إلى «البلوغ» يعنى ميلاد الخوف الأبوى الذى يُترجم إلى حصار خانق وقهر بلا ضفاف.

إلغاء معاهدة ١٩٣٦ حدث وطنى يبث الحماس فى النفوس ويدفع طالبات المدرسة السنية إلى التظاهر، وتندمج ليلى فى الكتلة العريضة بلا قدرة على التراجع.

تشارك وتهتف وتنتشي، ويراها محمد أفندى سليمان فيتهيأ لاستقبالها: «كز أبو ليلى على شفتيه حين فتح لها الباب، فتح لها الباب فى هدوء، وفى هدوء أغلقه ثم أظهر الشبشب الذى أخفاه خلف ظهره وحاول أن يطرحها أرضا، وتدخلت أمها تحول بينه وبينها ودفعها بعيدا، وبعيدا وقفت ترتجف شفتاها، وبيديه خلع حذاء ليلى، وعلى قدميها دوت طرقعة الشبشب وعلى ساقيها وظهرها».

قد يكون صحيحا أن الأب التقليدى يقمع الابن الأكبر عندما يمارس نشاطًا سياسيًا مماثلاً، لكن أسلوب العقاب يختلف جذريًا، ولا شيء فيه من العقاب البدنى على النحو الذى تتعرض له ليلى.

الإهانة القاسية موجهة للأنثى الكامنة فى الابنة، فهى عرضة للقهر المضاعف لأنها لا تنتمى إلى عالم الذكور، وتتحول أخطاؤها، فى السياسة والحب وشتى أشكال النشاط الإنساني، إلى خطايا لا متسع فيها للتهاون والغفران.

الالتحاق بالجامعة والخطوبة والتهيؤ للزواج والعمل فى مهنة التدريس، عوامل لا تغير جوهر المعاملة الأبوية التى تتسم بالعنف والشراسة.

ليس لأنه لا يحبها، بل لأن الأنوثة خطر داهم ومسئولية ثقيلة ومشروع «عار» مؤجل يصنع الخوف والتوتر.

فضلاً عن الأب، الذى ينتمى إلى جيل قديم موغل فى التعنت، تخوض ليلى ثلاث تجارب عاطفية متباينة، وهى فى مجملها تكريس لأزمة المرأة المصرية التى تراود الانعتاق وتصطدم بالجمود.

ابن الخالة عصام هو الحب الأول فى حياة ليلى، ولأنه بمثابة الأخ لا يخضع للقيود الصارمة التى يفرضها الأب بعد «بلوغ» ابنته، وأهمها حظر زيارات أصدقاء محمود: «عصام معلش، عصام منا وعلينا».

يتسم عصام بقدر كبير من العقلانية وتجنب الاندفاع غير المحسوب، وليس أدل على ذلك من تراجعه عن السفر مع محمود إلى منطقة القناة لخوض الكفاح المسلح ضد الإنجليز.

الانتقال من الإخوة إلى الحب قرين بالنضج وتجاوز الطفولة بكل ما فيها من براءة تخلو من المشاعر الحسية، لكن الحب عند ليلى حالة رومانسية فياضة بالمشاعر الرقيقة، أما عصام فلا يرى فى المرأة إلا جسدا يُشتهى.

لا شك أنه يحب ليلى بطريقته، ويكابد صراعا عنيفا جراء الشهوة التى تسكنه ولا يملك أن يكبحها إلا بأسلوب مهين لمثالية ليلى: «خلاص يا ليلى لقيت حل.

.

مش حاألمسك أبدا.

.

ولا أضايقك أبدا، حا أبص لوشك الحلو بس وأسمعك تتكلمي، وأحبك وبس لغاية ما نتجوز».

ما الحل الذى يروض شهوة عصام؟.

علاقة جنسية مع الخادمة سيدة، تعرفها ليلى من ابنة خالتها الأكثر واقعية وخبرة: «هو انت كده يا ليلى ما تفهميش حاجة أبدا؟ كل شاب فى السن دى ومش متجوز ضرورى يعمل كده، وإلا ما يبقاش رجل».

يتسامح المجتمع «الأخلاقي» المتزمت مع سلوك عصام ويراه مشروعا مبررا، وهو المجتمع نفسه الذى لا يقر أن تعيش الفتاة قصة حب بريئة.

الازدواجية لا تخفى، وخيانة عصام بعلاقته الحسية هذه ليست السبب الوحيد لفشل قصة الحب التى تجمعه مع ليلى، ذلك أن شخصيته مهتزة غير سوية، ومفاهيمه عن الوطنية والمرأة معا لا تتوافق مع رؤى ليلى وتطلعاتها.

يختلف الأمر فى قصة الحب الثانية مع حسين، الشاب الوطنى ذى الحضور اللافت والوعى المبرأ من داء الازدواجية والمعايير المختلة.

صداقته لمحمود مدخل التواصل، ولا شيء يؤخذ عليه فى الأفكار والسلوك، لكن ليلى بعد تجربتها الموجعة مع عصام تعانى من الاضطراب وفقدان الثقة.

يصارحها بحبه فتقول فى هدوء:«- أنا مش مرتبطة بحد، ومش ها أرتبط بحد.

وقال حسين فى قسوة:- عارفة أنت محتاجة لإيه؟ محتاجة لحد يقعد يهزك لغاية ما تفوقى لغاية ما تدركى إن الدنيا ما انتهتش، وإن اللى حصل ده كان ضرورى يحصل لأنك أنت اللى أسأتِ الاختيار».

بعثة حسين إلى ألمانيا تحول دون استمرار التواصل المباشر بينهما، وإذا كان عصام فى القصة الأولى هو صانع القطيعة بتهافته وضعف شخصيته غير السوية، فإن ليلى فى القصة الثانية تتحمل مسئولية التعثر بترددها ومشاعر الخوف التى تسيطر عليها.

فى تقييم حسين لها إضاءة مهمة تكشف عن جوهر الأزمة القديمة الممتدة، فهى عنده لم تستطع أبدا أن تقف على قدميها: «كان لا بد لها دائما أن تستند إلى شخص أو إلى شيء.

استندت أولا إلى أخيها، إلى بطل طفولتها، ورأت الدنيا من خلال عينيه واسعة جميلة طليقة مليئة بالحب، بالتضحية، بالإخلاص، بالحق، بالصدق، بالجمال.

وأراها عصام جانبا آخر من الحياة لا تعرفه، جانبًا عاريًا قبيحًا، وخارت الأرض تحت قدميها، استحالت إلى رمال طرية».

قراءة دقيقة واعية لشخصية ليلى التى تُفرض عليها التبعية للرجل، الأب والأخ والحبيب، فإذا بها تعانق الخواء وتعجز منفردة عن مواجهة العواصف التى تهب وتربك.

يغيب حسين بالسفر ولا يتوارى عن حياة ليلى، فهو يراسلها ويتشبث بحبها ويؤكد جديته وتماسك شخصيته.

فى المقابل، تأبى ليلى إلا أن تحمله مسئولية الأزمة، وفى تحليلها تحامل لا منطق فيه: «حسين هو السبب.

.

نعم حسين هو المسئول، قبل أن تعرفه كانت مكتفية بنفسها ومطمئنة ومرتاحة إلى هذا الوضع، ورجته أن يتركها فى حالها، أن يبتعد عن طريقها ولكنه لم يبتعد.

.

وذهب وخلّف لها وحدة تنهش فى جسمها وشعورا بأن شيئًا عزيزًا ضاع منها لا تستطيع أن تعوضه».

هل تخدع نفسها بأوهام كهذه؟ أم أنها صادقة تعانى من ارتباك نفسى ينعكس سلبا على القراءة الموضوعية لطبيعة العلاقة التى تهدرها؟ إنه يحبها وقادر على احتوائها، وفى إحدى رسائله يكتب ما يبرهن على وعيه بحقيقة الحب كما ينبغى أن تكون: «وأنا أحبك وأريد منكِ أن تحبيني، ولكنى لا أريد منك أن تفنى كيانك فى كياني، ولا فى كيان أى إنسان، ولا أريد لكِ أن تستمدى ثقتك فى نفسك وفى الحياة، منى أو من أى إنسان.

أريد لكِ كيانك الخاص المستقل، والثقة التى تنبعث من النفس لا من الآخرين».

تنقطع رسائله لأنها تفرض عليه الامتناع عن الكتابة، وفى قسم الفلسفة بكلية الآداب تلتقى بالرجل الثالث عظيم التأثير فى مسيرتها؛ الدكتور فؤاد رمزي.

الدكتور فؤاد، ذو القامة الطويلة المنتصبة والوجه الأبيض الوسيم، يظهر فى مرحلة حرجة من حياة ليلى، ويمارس ضغطًا معنويًا هائلاً على تلميذته التى لا تفهم دوافع سلوكه، قبل إدراكها أن الأمر لا يقتصر على ولعه بفرض إرادته على الجميع، لكنه أيضا الأسلوب الذى يتبعه للتعبير عن الحب، أو ما يشبه الحب.

إنه لا يحبها بالمعنى الصحيح الدقيق للكلمة، لكنه يراها زوجة صالحة مطيعة يسهل تشكيلها وإخضاعها لما يريد.

يعبر فؤاد عن ذكورية المجتمع المغلّفة بقشرة ثقافية هشة لا تغير جوهر الاستبداد والتحكم فى المرأة التى لا خصوصية لها، ووفق كلماته: «فيه ناس كتير من اللى بيسموا نفسهم مثقفين بيستهينوا بالأصول والتقاليد بتاعتنا.

.

ولكن ضرورى تعرفى إن الأصول دي، هى اللى بتربطنا بالأرض، ومن غيرها نبقى زى الشجرة اللى من غير جذور، شوية هوا تجرفها، وتوقعها كمان».

التشبث بالأصول والتقاليد الموروثة، دون مراجعة لجدواها ومدى توافقها مع متطلبات العصر، تضع الدكتور فؤاد فى طليعة كتيبة المحافظين الذين لا يختلفون موضوعيا عن محمد أفندى سليمان وأمثاله من أصحاب المواقف الرافضة لتحرر المرأة.

لا شيء يميزه إلا الظاهر الثقافى الذى يستخدم مفردات مختلفة، منتصرا للأفكار القديمة البالية.

تستسلم ليلى بعد مقاومة لا تطول، وما الخطوبة إلا القيد الرسمى المعلن الذى يتم تكبيلها به فى إطار تقليدى ينفى وجودها وحقها فى إبداء الرأي.

الدكتور فؤاد، على النقيض مما يدعيه، ليس أخلاقيًا مثاليًا متطهرًا، واختياره لليلى لا ينبع من الحب.

فى الاحتفال بالخطوبة، يصارحها بالرؤية الجافة الصادمة: «أنا على العموم ما باختارش مراتى على أساس سوقي».

لا كلمة واحدة يقولها للتعبير عن الحب، فهو منذ البدء لا يعرف الكلمة ولا يعترف بها: «ما فيش حاجة اسمها حب.

دى الكلمة اللى الإنسان المتحضر بيقنع بها الغريزة».

يميز الدكتور المثقف المتعجرف، المسرف فى نرجسيته وأنانيته، بين الحب والزواج.

ليلى مشروع زوجة مناسبة لأنها مطيعة هادئة، والجدير بالاهتمام فى شخصيته هو التوافق الكامل بين رؤاه الوطنية والعاطفية.

يتجلى ذلك عند تأميم شركة قرار السويس، القرار الذى يفجر الحماس فى نفوس الجميع إلاه: «فتأميم القناة ألّب علينا جميع القوى الاستعمارية ونحن أضعف من أن نواجهها.

وميزان القوى ليس فى صالحنا، وكنا نستطيع أن ننتظر، أن نتدبر الأمور ولا نتعجل، والشجاعة والحماقة لا يفصلهما إلا خط رفيع».

ليست مصادفة أن يبدأ تمرد ليلى مع المد الوطنى الجارف المترتب على التأميم وتوابعه، فما رحلتها مع الحياة إلا المعادل الموضوعى لمحطات وطنية حاسمة، ومواجهة استبداد الدكتور- الفرد تتوافق مع مقاومة العدوان الثلاثى الذى تتعرض له مصر.

فى نشوة الانتصار الوطنى تتخلص ليلى من خاتم الخطوبة الذى يقيدها، وتتهيأ مسكونة بالقوة والتفاؤل لمعانقة الحرية والحياة الحقيقية المشبعة مع حسين.

نهاية المعاناة وبداية التحقق للوطن وليلى معا، فهما منذ البدء تجسيد لقضية واحدة لا متسع فيها للفصل بين الفردى والجمعي، الذاتى والموضوعي.

مصر      |      المصدر: البوابة نيوز    (منذ: 4 سنوات | 9 قراءة)
.