المجتمعات وأبحاث الجريمة

تكثر عمليات القتل المتعمد في الولايات المتحدة، خاصة عمليات القتل الجماعي في المدارس، وأماكن العمل، ودور العبادة بل في الأسواق وأماكن التجمع، والمناطق الترفيهية، ومما يلفت الانتباه كثرة عمليات القتل من طلاب لزملائهم داخل المدارس، كما حدث أخيرا من المراهق الذي قتل 17 طالبا في ولاية فلوريدا، وغيره كثير، حتى أصبحت عمليات القتل الجماعي أمرا متكررا، إذ خلال شهرين وقع 18 عملية قتل جماعي راح ضحيتها كثير من الأبرياء، وفي إحصائية حول عمليات القتل الجماعي بينت أن أمريكا تحظى بنسبة 31 في المائة‏ من عمليات القتل الجماعي على مستوى العالم، في حين أنها لا تمثل سوى 5 في المائة‏ من سكان العالم.

عمليات القتل ليست محصورة في المراهقين، بل يقدم عليها كبار السن، حيث يقتل الأطفال، والنساء بعد اغتصابهم، أو سرقة ما معهم من أموال، أو مقتنيات ثمينة، ولعل ما يحدث في الكنائس من تحرش مع أطفال يتم قتلهم بعد ذلك لإخفاء الجريمة، كما أن للمرأة دورا في عمليات القتل بغرض الانتقام، أو السرقة، أو بدوافع أخرى، كالغيرة وغيرها.

هل يشكل القتل الجماعي ظاهرة؟ نعم، فكيف إذا أضيف إليها عملية القتل الفردي التي تحدث على مدار الساعة، فكلها تمثل جريمة تمارس في حق أبرياء لا يمكنهم الدفاع عن أنفسهم، كالأطفال، ومن لا يحمل سلاحا، ومن هو منهمك في عمله ليفاجأ بمجرم يسلب حياته؛ بلا سبب سوى ممارسة الإجرام المتأصل في شخصيته.

ما من شك أن الإعلام الأمريكي يسلط الضوء على هذه الجرائم، ويناقشها مع المختصين، وذوي العلاقة في الأجهزة الأمنية التي تحقق، وتسعى إلى معرفة الأسباب، أو بهدف التوصل إلى المجرم إن كان مجهولا، وفي عدة مرات يسارع الإعلام، وكذا بعض مسؤولي الأجهزة الأمنية، والسياسيين إلى ربط الجريمة بعرق، كالسود في أمريكا، أو بالمسلمين؛ بهدف التشويه، أو الابتزاز، كما حدث حين تم تفجير المجمع الحكومي في ولاية أوكلاهوما، ليتبين فيما بعد أن الجاني أمريكي مسيحي أبيض.

التغطية الإعلامية، وتسليط الضوء على هذه الحوادث جيدة، لكن هذا لا يكفي، فظاهرة القتل الجماعي، أو الفردي لا يكفي فيها الطرح الإعلامي، ولا بد من بحثها علميا لمعرفة الأسباب الكامنة وراءها، فالشمس لا يمكن تغطيتها بغربال، ولا يكفي ادعاء أن القاتل معتل عقليا، أو يعاني اضطرابات نفسية، كما يتكرر سماعه بعد أي حادثة قتل، خاصة حين يكون القاتل من ذوي الأصول الأوروبية.

في الثمانينيات الميلادية من القرن الماضي، وتحديدا في عهد الرئيس ريجن صدر تقرير "أمة في خطر" بني على دراسة علمية قام بها أساتذة جامعات، وباحثون، وقادة مجتمع، ومفكرون، ومشرعون، ولخص التقرير تراجع مستوى الطلاب الأمريكيين في الرياضيات، والعلوم لتشكل هذه النتيجة جرس إنذار استنفر العاملين في الأوساط التربوية، وأولياء الأمور والسياسيين، والمشرعين بهدف إصلاح الوضع، والبحث عن الحلول المناسبة، حتى لا تتراجع أمريكا عما وصلت إليه من تقدم تقني، وازدهار اقتصادي، وريادة للعالم.

جرس الإنذار يفترض أن يقرع في كل بلد تحدث فيه عمليات القتل، وتتكرر، وإن لم يكن قتلا جماعيا، فعملية التكرار قد تحولها لظاهرة تستدعي البحث، والدراسة العلمية للوقوف على الأسباب، خاصة ما لها علاقة بتكوين الشخصية، وتشكيل الاتجاهات، ولعل المنهج الخفي يكون أحد المنطلقات لهذه الدراسة، فواقع كثير من الدول المتمثل في الحرية، بلا حدود من قيم، ومثل، وإعلام ببرامجه غير المنضبطة، كما في تلفزيون الواقع والأفلام الخليعة فإنهما يشكلان بيئة خصبة، ومن خلال ما يحدث فيهما من أنشطة وفعاليات تنمو الشخصية المتحررة من القواعد المرعية اجتماعيا ويستقي منها الكبار والصغار كثيرا من الأفكار المنحرفة، والشاذة، إذ إن الرصيد القيمي، والأخلاقي يمثل رادعا يحول بين الفرد، وارتكاب الجرائم، ودون هذا الرصيد يتحول الفرد إلى عبد لشهواته ونزواته.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 4 سنوات | 9 قراءة)
.