مقدرة أوروبا على مواجهة هيمنة الدولار على المحك

تطلب الأمر أصواتا مشفرة من طائرة هليكوبتر تابعة لسلاح مشاة البحرية الأمريكية، لتفعيل تصميم أوروبا على عدم الخضوع لهيمنة الدولار، بعد الآن.

عندما غادر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب مبكرا من قمة مجموعة السبعة في شارليفوا كندا، في حزيران (يونيو) عام 2018، وانسحب بشكل مفاجئ من بيان رسمي مشترك، ترك القادة الأوروبيين أولا "عاجزين عن الكلام، ثم مصممين على العمل معا"، كما يقول مارتن سيلماير، الأمين العام للمفوضية الأوروبية برئاسة جان كلود يونكر الذي ينظر إليه منذ فترة طويلة بأنه المسؤول الأكثر نفوذا في بروكسل.

يقول سيلماير: "ركوب ترمب طائرة الهليكوبتر في شارليفوا أثار فكرة السيادة الأوروبية.

تعزيز الدور الدولي لليورو كان إحدى الإجابات عن تلك اللحظة السياسية".

بعد ذلك ببضعة أشهر فقط، تعهد يونكر بجعل اليورو "يلعب دوره الكامل على الساحة الدولية".

المفوضية التالية تبدو حريصة على التقاط عصا المايسترو: أورسولا فون دير لاين الرئيسة الجديدة أدرجت هدف تعزيز اليورو في الرسائل إلى فريقها.

منذ بداية العام كانت المفوضية تعمل بهدوء لتعزيز استخدام اليورو في الفواتير عبر الحدود خاصة بالنسبة إلى منتجات الطاقة.

تم إنشاء مقاصة للتحايل على التهديدات الأمريكية، لإبعاد الشركات التي تتعامل مع إيران من نظام الدولار.

وتم حث البنك المركزي الأوروبي على تفادي العواقب الاقتصادية المترتبة على زيادة استخدام اليورو على المستوى الدولي.

في الوقت الذي تتطلع فيه أوروبا بحذر إلى المنافسة المتزايدة التي تواجهها صناعاتها الرئيسة من الصين، والقيادة المتقلبة على نحو متزايد لحليفها الأمريكي أصبح دور اليورو أحد الأركان الرئيسة لإعادة التفكير العميق في المنطقة حول كيفية دفاعها عن مصالحها التي تشمل السياسة الصناعية والتجارة.

بالنسبة إلى القادة الأوروبيين، فإن اليورو الذي يشغل مكانة أبرز، ضروري لضمان الاستقلال المالي والنقدي في المنطقة وحمايتها من محاولات الولايات المتحدة، لتسليح الدولار من خلال العقوبات المالية.

يعتقد جوزيف بوريل الممثل الأعلى للشؤون الخارجية، أن المشروع الرامي إلى تعزيز مكانة اليورو ينبغي التعامل معه على قدم المساواة مع سياسة الدفاع: "ينبغي علينا تعزيز دور اليورو الدولي، وكذلك قدرتنا العسكرية على العمل، يجب أن يتعلم الاتحاد الأوروبي استخدام لغة القوة"، كما قال أمام البرلمان الأوروبي.

عقدة النقص النقدي في أوروبا تعود إلى وقت بعيد.

قبل نصف قرن، أعرب فاليري جيسكار ديستان وزير المالية الفرنسي آنذاك، عن أسفه من "الامتياز المفرط" لواشنطن، تفوق الدولار الذي وضع أوروبا في وضع غير موات تجاريا، وساعد على توفير حافز الأوروبيين على الطريق الطويل للاتحاد النقدي.

الاستياء نفسه عاد إلى الظهور مع الفوضى النقدية التي أطلقها ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي في ذلك الحين، عندما فكك نظام سعر الصرف المتبع في اتفاقية بريتون وودز، بشكل أحادي، من خلال إزالة ربط الدولار بالذهب عام 1971.

يقول سيلماير إن شارليفوا كانت "لحظة نيكسون ثانية" بالنسبة إلى أوروبا.

الازدراء في مجموعة السبعة تبع إعلانات أمريكية أخرى جعلت أوروبا تشعر بالقلق من هيمنة الدولار.

قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني في أيار (مايو) عام 2018، سلط الضوء على كيفية بقاء الشركات الأوروبية معتمدة على الأسواق المالية المقومة بالدولار.

بموجب العقوبات التي أعادت فرضها إدارة ترمب، يمكن أن يواجه الأوروبيون الذين يتعاملون مع طهران عقوبات أمريكية.

التهديد أوقف من الناحية العملية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، وقوض الحوافز الاقتصادية التي في صميم الصفقة النووية.

في آب (أغسطس) الماضي، دعا هايكو ماس وزير الخارجية الألماني إلى إنشاء "قنوات مدفوعات مستقلة عن الولايات المتحدة ونظام سويفت مستقل".

نظام سويفت، خدمة رسائل تستخدم لتوجيه المدفوعات عبر الحدود، قائم في بلجيكا، لكنه موجود في الولايات المتحدة، وهو جزء لا يتجزأ من نظامها المالي.

ردا على ذلك أنشأت ألمانيا وفرنسا وبريطانيا مقاصة مالية للصفقات مع إيران، معروفة باسم إنستيكس.

هل يمكن أن تكون هذه الجهود أكثر نجاحا من محاولات أوروبا السابقة للتحرر من هيمنة الدولار؟ التوقيت مناسب، حيث يواجه الدولار رياحا معاكسة بسبب سياسات ترمب المتقلبة، وهناك بلدان أخرى تبحث أيضا عن بدائل للنظام المالي الأمريكي.

يحذر باري إيتشنجرين، أستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، من أن هيمنة العملة يمكن أن تتغير، و"يمكن أن نتخيل هذا التحول يحدث بسرعة كبيرة إذا ما حدث خطأ ما".

اليورو هو ثاني أكثر العملات استخداما في العالم.

ويمثل نحو خمس احتياطات النقد الأجنبي العالمي، ونسبة مماثلة للحيازات الدولية من السندات والقروض والودائع، مقارنة بأكثر من النصف بالدولار.

أحد المجالات القليلة التي يقترب فيها اليورو من مطابقة الدولار هي في المدفوعات العالمية والفواتير، حيث تمثل كلا العملتين نحو 40 في المائة لكل منها وذلك وفقا لأرقام البنك المركزي الأوروبي.

مع ذلك، فإن التجارة بين القوتين الاقتصاديتين مقومة بالدولار بشكل ساحق.

وفقا لأبحاث صندوق النقد الدولي، يتم إصدار فواتير ثلاثة أرباع مبيعات منطقة اليورو إلى الولايات المتحدة، وأكثر من 90 في المائة من وارداته من هناك بالدولار.

إطلاق اليورو عام 1999 أدى إلى إيجاد توقعات أن العملة الأوروبية ستتمتع قريبا بمكانة متساوية مع الدولار.

بعد فترة نمو أولية، أصبح دوره في الاقتصاد العالمي راكدا أو تقلص، إلى الحد الذي أصبح فيه اليورو الآن أقل أهمية مما كان عليه وقت إنشائه.

"وفقا لبعض المقاييس لا يلعب اليورو دورا أكبر من المارك الألماني والفرنك الفرنسي الذي حل محلهما"، وذلك وفقا لدراسة جديدة أجراها خبراء الاقتصاد إيثان إلزيتزكي وكارمن رينهارت وكينيث روجوف.

الثلاثة يجادلون بأن "السبب الرئيس هو ندرة الأصول القابلة للتسويق ذات الجودة العالية المقومة باليورو، والافتقار العام للسيولة مقارنة بأسواق السندات المقومة بالدولار".

بسبب تخفيضات التصنيف الائتماني في الأزمة السابقة وسوق الأوراق المالية الخاصة التي لا تزال مجزأة، فإن اليورو لديه عدد قليل جدا من الأصول الموثوقة التي يستخدمها المستثمرون العالميون كاحتياطات: عادة ما تكون سندات ذات تصنيف ائتماني AAA آمنة للغاية تصدرها حكومات أو شركات ذات جدارة ائتمانية.

البنك المركزي الأوروبي يتفق مع ذلك، وذلك وفقا لبينوا كوريه، أحد أعضاء مجلسه التنفيذي.

"في تحليلنا، الخطوة الأكثر أهمية ستكون تعميق أسواق رأس المال الأوروبية وإدخال أصول آمنة.

هذا سيغير قواعد اللعب".

في الواقع، لم يسبق لأي عملة أن اكتسبت هيمنة دون أسواق سائلة في أصول قياسية، كما يقول إيتشنجرين.

"إذا نجحت أوروبا في تعزيز الدور الدولي لليورو بشكل كبير دون هذه الخطوة، فستكون هذه سابقة".

نقص الأصول الآمنة المقومة باليورو تفاقم بسبب أزمة الديون السيادية في منطقة اليورو للأعوام 2010-2012، عندما خشي المستثمرون من أن العملة الموحدة قد تنهار.

تقول جيتا جوبيناث، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي: "إنها فكرة جيدة تماما أن يتم تعزيز اليورو في الأسواق الدولية، لكن الشرط الضروري لهذا هو تحسين بنية منطقة اليورو لتعزيز المرونة، القدرة المالية المركزية، اتحاد أسواق رأس المال، الاتحاد المصرفي".

تعزيز بنية منطقة اليورو ليس سوى البداية.

تقول إيلينا ريباكوفا، خبيرة الاقتصاد في معهد التمويل الدولي، إنه يجب أيضا دعم "الوصول الفعلي" للمستثمرين من خارج منطقة اليورو إلى العملة بشكل فعال.

من بين أشياء أخرى، يجب أن يكون البنك المركزي الأوروبي أكثر استعدادا "لتوفير خطوط مقايضة باليورو إلى مصارف مركزية أخرى خارج منطقة اليورو"، كما يفعل مجلس الاحتياطي الفيدرالي بالدولار.

وتشير إلى أن المصارف الأوروبية كانت تعتمد بشدة على التمويل بالدولار خلال الأزمة المالية، وهو ما قدمه مجلس الاحتياطي الفيدرالي، لأن الولايات المتحدة كانت في مركز الأزمة.

وتتساءل قائلة: "ماذا لو جاءت صدمة من خارج الولايات المتحدة، أو كانت لا علاقة لها بمجال مسؤولية مجلس الاحتياطي الفيدرالي؟ مع أسواق اليورو الأعمق والأكثر دعما، ستحصل على مصارف أكثر تمويلا باليورو".

يغلب على خبراء الاقتصاد قياس الدور العالمي للعملة، من خلال النظر في استخدامه في الاحتياطات الدولية للمصارف المركزية وكبار المستثمرين من القطاع الخاص.

في الآونة الأخيرة، بدأوا يهتمون أكثر بمقياس مختلف: اختيار العملة للفواتير التجارية والصفقات.

"أصول هيمنة العملة تكمن في الصفقات"، كما تقول جوبيناث، التي تعتقد أن الاستخدام الكبير للدولار في التجارة عامل مهم في "امتيازه المفرط".

وتضيف: "بالنسبة إلى عديد من الأسواق الناشئة، يتم إصدار أكثر من 80 في المائة من وارداتها بالدولار.

لحماية نفسها من تحركات العملة، من الطبيعي تماما أنها ستختار الادخار بالدولار، الأمر الذي بدوره يؤدي إلى هيمنة الدولار في أسواق الأصول".

وهي تجادل أن المركز المهيمن في الفواتير والمدفوعات يجلب معه مزايا في الاقتصاد الكلي.

وتقول: "بقية العالم أكثر حساسية بكثير للسياسة النقدية الأمريكية مما هو بالعكس.

التضخم الأمريكي معزول تماما عن تحركات عملتها".

هذا هو السياق لحملة المفوضية الأوروبية لزيادة حصة اليورو من التجارة مع العالم الخارجي، ولا سيما في مجال الطاقة.

أصدرت السيدة فون دير لاين تعليماتها إلى كادري سيمسون، مفوض الطاقة قائلة: "للنظر في طرق زيادة استخدام اليورو في أسواق الطاقة بشكل حاد".

يبدو أن المبادرة تؤتي أكلها منذ الآن.

بعد اجتماع بين مسؤولين روس ومسؤولين من المفوضية في حزيران (يونيو) الماضي، ذكرت وسائل الإعلام الروسية أنه سيتم تشكيل لجنة عمل مشتركة بشأن إصدار فواتير الطاقة بعملة غير الدولار.

في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أعلنت شركة روسنفت أكبر شركة روسية لإنتاج النفط، أنها تحولت إلى اليورو من الدولار لجميع عقود صادراتها.

تجادل ريباكوفا أن السلطات الأوروبية يمكن أن يكون لها بعض التأثير في نوع العملة المستخدمة في الفواتير في "السلع ذات القيمة الكبيرة" مثل أسواق الطاقة حيث إن هناك عددا محدودا من الصفقات.

وتقول: "لأسباب تاريخية في الماضي، كان يتم ربط معظم موردي الطاقة بالدولار، فالولايات المتحدة كانت المستهلك الأكبر.

الآن الأوروبيون هم أكبر المستهلكين، ولم يعد يتم ربط بعض من أكبر الموردين بالدولار".

وتوصي بإنشاء معايير جديدة لأسعار الطاقة لتشجيع الأسواق المالية، على إنشاء أدوات تحوط باليورو.

في حين أن الخطط لتعزيز اليورو في فواتير الطاقة أحرزت بعض التقدم، إلا أن المحاولة لإنشاء بديل من اليورو لنظام سويفت كانت مخيبة للآمال، حتى مع انضمام ستة بلدان أوروبية جديدة لنظام إنستيكس الأسبوع الماضي.

تقول ريباكوفا إن نظام إنستيكس "لم ينجح على الإطلاق"، لأن الشركات التي تستخدم نظام إنستيكس، لا تزال تواجه خطر فصلها عن النظام المالي القائم على الدولار.

"أعتقد أن تكلفة تفويت السوق الأمريكية كبيرة فوق الحد، حيث لا يمكن أن تشارك المصارف فيه بل حتى الشركات غير المالية أيضا".

مع ذلك، يصر سيلماير على أن "الأمر الأكثر أهمية هو أن دور اليورو مدرج في جدول الأعمال ولم يختف.

الأنشطة المستمرة لترمب تساعد في تعزيز الدور الدولي لليورو، فالولايات المتحدة لا تبدو شريكا موثوقا به".

تعتقد جوبيناث من صندوق النقد الدولي أنه سيكون من الصعب على اليورو إزاحة الدولار، بسبب "تأثيرات شبكة قوية جدا" تدعم العملة الأمريكية.

"عندما تتداول أجزاء كبيرة من العالم مع بعضها بعضا وتدخر وتقترض بالدولار وتحتفظ باحتياطات بالدولار، فإن كل هذه القنوات تعزز بعضها بعضا، وكذلك المكانة البارزة للدولار".

إيتشينجرين من جامعة بيركلي واثق بحذر من أنه سيتم وضع الأساسيات من أجل يورو أكثر أهمية: "دائما ما كانت وجهة نظري هي أن اللحظة ستأتي، لكن علينا أن نتحلى بالصبر.

بناء الإجماع يستغرق وقتا طويلا".

استبدال عملات افتراضية بالدولار تتعرض هيمنة الدولار أيضا للضغط الآن بسبب التغيرات السريعة في تكنولوجيا المدفوعات وإطلاق عملات رقمية بديلة عن النقدية.

عندما أعلنت شركة فيسبوك في أيار (مايو) الماضي، أنها تريد دخول صناعة المدفوعات من خلال عملة افتراضية تدعى ليبرا، أصر وزراء المالية ومسؤولو المصارف المركزية على الفور، على أنه لن يسمح لها بالالتفاف على الأنظمة أو تقويض الاستقرار المالي.

بالنسبة إلى الحكومات، فإن الخوف النهائي هو أنه يمكن لعملة ليبرا أن تحل محل عملات البلدان، وتجعل السياسة النقدية عاجزة.

هذا يمكن أن يحدث بشكل أسرع بكثير من التغيرات التاريخية في استخدام العملات، كما يحذر بينواكوريه.

ويضيف: “يغلب علينا أن نرى اختيار العملة، على أنه عملية تاريخية ترتبط بالتغيرات البطيئة في التجارة.

العملات الرقمية لديها القدرة على أن يحدث التغير بشكل أسرع بكثير”.

تستطيع العملات الرقمية أن تسرع التحول بعيدا عن الدولار، وفقا لما تقولة إلينا ريباكوفا.

“كلما ازداد استخدامك للمنصات البديلة، قل اعتمادك على الولايات المتحدة.

” على سبيل المثال “وي تشات” تطبيق المدفوعات الصيني أقل “اعتمادا بكثير على النظام المالي الأمريكي.

وهذا أمر تسعى السلطات الروسية إليه كذلك.

” هناك تقارير تفيد بأن الصين قريبة من إطلاق عملة رقمية رسمية، مع انخراط مباشر للبنك المركزي الصيني.

هل يمكن أن تكون هناك فرصة لزيادة استخدام اليورو من خلال إنشاء بديل أوروبي لهذه المبادرات؟ تقول ريباكوفا إن التأكيد ينبغي أن يكون على الأنظمة الجيدة للمدفوعات.

وتضيف: “لا أعتقد أن من الضروري تعزيز أنظمة رقمية يهمين عليها اليورو.

من المهم أن تكون هناك أنظمة شفافة ومنظمة جيدا، ثم ترجو أن تتماشى العملة معها.

هذا من شأنه أن يقلص الاعتماد على الأنظمة القائمة على الولايات المتحدة”.

القطاع الخاص في أوروبا بدأ يطلب مزيدا.

تطالب رابطة المصارف التجارية في ألمانيا بإنشاء يورو رقمي.

أحد دوافعها المعلنة هو تجنب الاعتماد على الخدمات القائمة في الصين أو الولايات المتحدة.

السعودية      |      المصدر: الاقتصادية    (منذ: 4 سنوات | 6 قراءة)
.